الأربعاء ٩ نوفمبر ٢٠١١
يروى أن قاضياً كان جالساً في المحكمة و أحس بالعطش فهمس لحاجب المحكمة “حسب الظاهر أنا عطشان” و بطبيعة الحال فقد تعود الحاجب على تلقي أسماء الشهود من القاضي بهذه اللهجة الهادئة. و بحسب ما تعوده الحاجب قام منادياً للشاهد “حسب الظاهر أنا عطشان”، أخذ يكررها و القاضي يحاول تنبيهه بلا جدوى. رجع الحاجب بعد لحظات ليخبر القاضي ربما بعدم حضور الشاهد !!
أمور كثيرة بحسب الظاهر تختلف كلياً عما هي عليه حقيقةً، فمثلاً ما كل الأصدقاء أصدقاء و لا كل الأعداء أعداء. كيف ذلك؟ ألا يؤثر في الحديث أن “أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما. و ابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما”؟ أليست الآية تقول “إن من أزواجكم و أولادكم عدواً لكم فاحذروهم” ؟ أليس قد قيل قديماً “عدو عاقل خير من صديق جاهل”، ألم يكن قولٌ “إياك و مصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك”؟
نعم، قد يكون ذلك غريباً، إلا أن بعض الأطراف التي لا تستطيع أن تتصادق علناً تضطر حتماً إلى توافقات و مهادنات و ربما صفقات على المدى البعيد من وراء الستار لتحقيق مصلحة الطرفين، و تكون التعاملات هذه مباشرة، أو عبر وسيط مقبول لدى الطرفين. قد ينظر إلى هذا الكلام على أنه ضرب من الرجم بالغيب أو الإتهام بلا دليل، إلا أن الأمثلة في التاريخ أكثر من أن تحصى، لذا سنستدل على موضوعنا ببعض الشواهد للوصول إلى نتيجة واضحة.
ربما يصعب فهم ذلك، كما يصعب على أبناء جيلنا فهم أن حركات التطرف الإسلامي في أفغانستان كانت تلاقي الدعم الأمريكي في يوم من الأيام حتى تحولت للاعب قوي يمكنه مقارعة السوفييت و تحقيق المصلحة المشتركة مع أمريكا بتحرير أفغانستان. من يصدق ذلك اليوم و هو يرى أمريكا تحتل أفغانستان لمحاربة هذه الحركات المتشددة؟
و قد يصعب على أبناء عصرنا تصور أن نظام صدام الدموي كان مدعوماً و مدفوعاً بالمصالح المشتركة مع الأمريكان ليشعل الحرب مع إيران لثمان سنوات و يأخذ دور شرطي المنطقة و حامي البوابة الشرقية، ثم يندفع للتوسع في دول المنطقة، فتحين مرحلة تحطيمه من جديد كما حانت قبلها مع حلفاء آخرين.
و كما أن التاريخ وضح لنا هذه الصورة المعكوسة لموضوعنا، حين يرينا عداء شديداً يختفي وراء صداقةٍ حميمة. التاريخ كذلك يخفي في جنباته صداقات قريبة خلف عداوات ظاهرة. فهل يمكن لأحدنا اليوم أن يجزم أيهما استفاد أكثر من عداوته للآخر، هتلر أم بعض النخب اليهودية؟ حصل الأول على التفاف الأنصار حوله عبر صناعة عدوٌ بغيض، و حصلت نخب اليهود على التعاطف لإنشاء وطن قومي يلم شعثهم و يحمي ضعيفهم.
ماذا ستكون ردود أفعالنا حين تخرج لنا الويكيليكس ببرقيات تدل على التعاون و التنسيق في الخطوط العريضة حول العلاقة بين أطراف كنا نفترض بينها التعادي و التشاحن؟ هكذا هي السياسة، تصدمك في كل وقت بما لا تتوقعه، و لنا في السيد جنبلاط مثال لا ينسى في مرونة التحرك بين الفرقاء بحسب ما تقتضيه المصلحة.
ستكشف الأيام لكل ذي عينين أن لكل ظاهرٍ باطناً قد لا يوافقه، فإن كان اعتمادنا على الظاهر و حسب دون استقراء ولا تمعن، فلا شك أننا سنظل حيارى ضائعين، و سيظل القاضي ظمآناً.
آخر الوحي:
الأصدِقَاءُ...
الأصدِقَاءُ تَعَاهَدُوا
أنْ يبدأوا ميلاَدَهُم
بِذَهَابِي
شربُوا نبيذَ الحُبِّ
فوقَ موائِدِي
لم يشكُرُوا كأْسِي
ولا أعنَابِي
أحببْتُهُمْ فرحًا
أحَبُّوا دمعَتِي
فتركتُهُم يتناهَبُونَ
سَرَابِي
لاَ شأنَ لِي بالحُبِّ
ما شأنِي بِهِ؟
أنا خارج مِن جَنَّةِ الأحبابِ
أحمد بخيت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق