الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

مع عقلاء المجانين









الأربعاء 26 سبتمبر 2012


أحد الكتب ذائعة الصيت في ثقافتنا العربية الإسلامية، وكنت أذكر دوماً ما ينقل من القصص والحوادث عنه من طرائف المواعظ التي تجري على لسان أناس اشتهروا بالجنون وإن كان واقع حالهم صحة العقل ورجحانه، وإنما اعتزلوا عالم العقلاء لما وجدوه يجري بصورة غير منطقية فقرروا مخالفته واعتزاله فما كانت لهم حيلة ليفعلوا ويسلموا من شر من يقال عنهم العقلاء إلا بادعاء الجنون.
وعجبت حين وجدت ناشر الكتاب يعلق قائلاً “هذا الكتاب نال شهرة واسعة لغرابة موضوعه، وطرافة محتواه، إذ يحتوي على نوادر الحمقى وأخبار المجانين من الذكور والإناث، ويبين أصل الجنون في اللغة، ويعدد أسماء المجنون، ويسوق الأمثال المضروبة في الحمق والحمقى”. وكان عجبي من ذاك أن الناشر على ما يبدو لم يطلع حقاً على الكتاب، إذ أن مجمل ما تقرأه في الكتاب من قصص لا يتعلق بحمقى ولا بمجانين كما أسلفت، إنما يدور حول من ادعوا الجنون أو اعتزلوا الناس رغم رجحان عقلهم ونقاء سريرتهم ونفاذ بصيرتهم. إلا أن ظاهر الكتاب يبدو قد خدع الناشر كما خدع كل بطل من أبطاله القريب منه والناظر.
ويصنف الكتاب المجانين إلى أنواع وضروب، فمنهم من عشق فتيمه الحب وجن، ومنهم من اعتقد بدعة أو ارتكب كبيرة فأدركه شؤمها فجن، ومنهم من سمي مجنوناً بلا حقيقة حتى أن العرب اعتبرت الشباب شعبة من الجنون. ومنهم من جن من مخافة الله. ثم يأتي إلى لب الكتاب فيقول ومنهم من تجان وتحامق وهو صحيح العقل، ثم يقسم هؤلاء إلى ضروب. فمن المتحامقين من أراد تورية شأنه وستر أمره عن الناس، ومنهم من تحامق لينال غنى، وآخر تحامق لينجو من بلاء وآفة.
ولعل تفسير ذلك كله في قول ينقل في الكتاب إذ يقول “الناس ثلاثة، مجنون ونصف مجنون وعاقل. فأما المجنون فأنت منه في راحة، وأما نصف المجنون فأنت منه في تعب، وأما العاقل فقد كفيت مؤنته”.
ولعل القائل قد فاته شيء مهم، وهو أن يشير إلى فرق بين عقلاء المجانين ومجانين العقلاء، فإن عقلاء المجانين قوم ظاهرهم الجنون وباطنهم العقل وهم قلة قليلة، وأما مجانين العقلاء فأقوام ظاهرهم العقل وباطنهم الجنون والخبل والعياذ بالله منهم لكثرتهم وشدة أذاهم.
والحق يقال إن الفتن العقيدية والسياسية التي جرت في بلاد الإسلام كانت عذراً لكل متحامق، والخلافات التي نشبت حجة لكل معتزل، ولكن الطريف أن العقلاء كانوا يسمعون العظات ويهتمون لها حين يسمعون أمثالها على ألسنة المجانين. وربما كان ذلك أصل مقولة “خذ الحكمة ولو من أفواه المجانين”.
فذلك مجنون يقذفه الأطفال بالحجارة فيقال له: ارمهم وكفهم عنك فيقول لا أفعل: يمنعني من ذلك خصلتان: خوف الله وأن أكون مثلهم.
وذلك آخر اسمه لغدان من بني أسد يمر بقوم من تيم اللات بن ثعلبة فيعذبونه ويعبثون به فيقول لهم “ما أعلم في الدنيا قوماً خيراً منكم” فيسألونه عن ذلك فيرد عليهم: بنو أسد ليس فيهم مجنون غيري. يسأل عن ذلك فيجيب: بنو أسد ليس فيهم مجنون غيري، وقد قيدوني وسلسلوني، وكلكم مجانين ليس فيكم مقيد”.
هذا وقصص المجنون الأشهر “بهلول” أكثر من أن تحصى في وعظ الكبراء، ولا أدري أي مجنون يقصدون وقد طبقت شهرته الآفاق في الوعظ والنصح والتدين. وللحديث تتمة.

آخر الوحي:
رأيت الناس يدعوني**بمجنون على حال
ولو كنت كقارون**وفرعون في الأقبال
رأوني حسن الوجه**جميلا حسن البال
وماذاك على حق**ولكن هيبة المال

جعيفران

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق