حين يخرج البحارة من ديارهم في عتمة الليل قاصدين المصائد لجلب الرزق لعوائلهم، وبعد التوكل على الرحمن، فإنهم يتأكدون دوماً من توخيهم إرشادات السلامة، ويتأكدون أن إبحارهم سيكون في أجواء مناسبة للصيد، لكي لا يصيبهم بعض بطش البحر الذي لا تؤمن غائلته إذا غضب.
وكعادته كان الحاج يعقوب قد أعد للخروج عدته في تلك الليلة، وانطلق يمخر عباب البحر بالأذكار والتسبيح حتى وصوله إلى مقصده. وهنا ألقى مرساته وابتدأ في ملأ ثلاجته من الصيد الوفير. وبعد دقائق من السكون الذي لا يعكر صفوه إلا صوت همهمة الحاج وعمله الدؤوب، سمع صوت محرك هادر يشق الأمواج مسرعاً بمحاذاته منطلقاً إلى الشرق. كان الحاج متعوداً على رؤية منظر زملائه الذين يمرون بين الفينة والأخرى ويحيونه وهم متجهون إلى اماكن صيدهم المعهودة. وفجأة قطع سكون الليل صوت طلقات نارية وأضواء وإشارات. لزم يعقوب مكانه وأخذ يترقب، وإذا نفس القارب الأول قد عاد وتوقف على مقربة منه.
سأله عن ما حدث فأجابه أن حرس الحدود البحرية قد قاموا بملاحقته للخروج من حدودهم، التي دخلها عن طريق الخطأ. وتعجب يعقوب لذلك، فقد كان تعود حين تجاوزه للحدود بالخطأ أن يجد كل المساعدة والتحذير الودي من حرس الحدود الذين يتأكدون من سلامته ويدلونه على طريقه إذا ضله.
واصل عمله بهدوء ثم عاد أدراجه مودعاً زميله ومتمنياً له صيداً وافراً وليلة سعيدة. يعقوب ورغم خبرته في الحياة، وحذره من مخاطر البحر لم يستطع أن يميز بين شيئين مهمين وهما إرشادات السلامة وقوانينها من ناحية، وحالة الأجواء من ناحية أخرى. ولذلك كان يرى من التناقض في واقعه وما حوله شواهد كثيرة.
إن الأجواء الملبدة بالغيوم تمنعه من الإبحار، والرياح العاصفة تمنعه من الإقلاع، وجزر البحر يجعل مهمة عودته عسيرة إلى مرساه. وقوانين السلامة عنده مرتبطة بالأجواء المتغيرة فحسب، أما في الجو الهادئ، فلم يكن هناك خوف ليكون هناك حذر ولا استعداد ولا التزام بتلك القوانين.
ولعل الكثيرين من الناس غير الحاج يعقوب لا يفرقون بين هذين الأمرين. فأجواء الانفتاح والتسامح لا تعني أبداً أنه لا يوجد قانون يضبط الحالة السياسية والاجتماعية. وأجواء الأزمات لا تعني أن الحريات الشخصية والحقوق الفردية والجماعية قد سقطت من بين دفتي القانون وصار بالإمكان انتهاكها دون حساب. هذا الخلط صار موجوداً وحاضراً بقوة، فترى بعض الناس يستغلون أجواء الانفتاح للمغالاة في استغلال هذه الحالة بما يفوق الوصف من خرق للقوانين دون حسيب أو رقيب، سواء كانت خروقات تستهدف الأمن، أو استغلال سلطة، أو تعدٍ على الأموال العامة وكأن القانون غير موجود أساسا، ويظلون كذلك حتى تتأزم الأمور. فيما نرى آخرين يستغلون أجواء الأزمات لفعل ما يريدون من تشهير وسب وتجريح متناسين أي قانون أو عرف أو خلق، وكأنها فرصة لمن في نفسه شيء أن ينفس عنه.
وحين يتغير الجو وتنقطع شعرة معاوية، يصير هؤلاء أو أولئك تحت طائلة القانون ويروحون أكباش فداء لنزوات وسقطات عابرة، لا يخرجون منها إلا بشق الأنفس.
يقال أن عمرو بن العاص حين أراد أن ينافس معاوية في الدهاء ويبدي تفوقه قال له: “أنا لا أدخل في أمر إلا وأعرف كيف أخرج منه” فضحك معاوية منه وقال له: “لكنني لا أدخل في شيء أريد الخروج منه”. فهل لا كان المتجاوزون للقوانين، قد أعدوا إحدى هاتين العدتين لأنفسهم وقديماً قال المصريون “امش عدل، يحتارعدوك فيك”.
وأنا لا أستغرب وقوع النخب في هذا الخلط وهم الذين يعول عليهم في إرشاد الناس من خطباء وكتاب ورجال دين ودولة واقتصاد، مع أن ذلك للأسف يدل على أن ثقافة الاختلاف والتسامح واحترام الرأي آخذة في الاضمحلال حتى على مستوى النخب، لأن احترام القانون ينبع من كونه حاضراً دائماً ومع الجميع، فإذا غاب أو ضعف ولو لفترة، فإن الأجواء السائدة تخلق حالة الفوضى واللامبالاة. ولست أساوي بين الخطاب المحرض والخطاب المفند بهذا الكلام كما يقول بعض الكتاب. إذ أن تجاوز القانون مرفوض من أي طرف يصدر منه، ولا أعتقد أننا نعمل خيراً حين نغضي عن توجهات السب والتسقيط والتشهير، لأننا بذلك نؤسس أمرين كلاهما أخطر من الآخر، الأول أننا نلغي لغة الحوار ونبدلها بالغوغاء والفوضى، والثاني أننا نخلق بذلك بيئة لنمو التشدد والكراهية بين الناس.
يقول علي حين سمع قوماً يسبون آخرين “إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق