للإطلالات الأولى من نور الصباح إحساس غريب ينطبع على نفوس الساهرين والمستيقظين في هذا الوقت الساحر الأخاذ. فجوه يجمع ما بين برودة الشتاء ولطفه، وحرارة النهار ونشاطه. وقد كنت دائماً أعتقد أن الفجر مخلوق مختلف، خلقه الله بطابع يبعث على الذهول يمكن تلخيص وصفه بكلمة «التفتح». كل شيء يتفتح ويبدأ، ابتداءً من الزهور والأوراق، مروراً بأصوات الطيور المغردة المستبشرة، وانتهاءً بأبواب البيوت.
كل ما يختص بهذا الوقت من اليوم آسر للمشاعر، الخروج من صلاة الفجر مع الخيوط الأولى للضوء، الوقوف عند خباز المنطقة وتلقي هبات الدفء من التنور الملتهب، الوقوف في الدور لشراء «النخج» و»الباقلة»، وربما الانتظار عند محل الحاج جعفر في انتظار «الجباتي» و»الكباب» الذي يعده ويتقاطر أهل الحي لشرائه.
من أجمل ما يرتبط بالفجر النظر إلى الحياة وهي تدب في كل شيء، ولعل ذلك النشاط الذي يفسره العلماء بنزول غاز الأوزون إلى الطبقات الدنيا من الغلاف الجوي هو مصداق لما أجاب به الإمام ذلك النصراني عن الساعة التي ليست من الليل ولا النهار. هنا أجابه أنها الساعة بين طلوع الفجر وشروق الشمس. فعاوده بقوله مم هذه الساعة إذن، فأخبره أنها من ساعات الجنة. ولا عجب في ذلك، فلا أظن اللغو والنصب والتعب يخفى في ساعة صحو غيرها. ولا أظن ساعة تعج بالتسبيح والتقديس الصادق مثلها، ولا أظن سعياً للنهل من فضل الله يكون أحسن من هذه الساعة، التي يغني فيها الجلوس في المسجد عن الضرب في أقطار الأرض.
ومابين الطريق بين عين الدار إلى منطقة الجامع والسوق قلب جدحفص النابض، تدير بصرك إلى الأفراد الماشين والممتطين صهوة دراجاتهم الهوائية متنقلين بين البيت وأماكن العمل والكد، فتعرف أنك بين أناس ككثير من أهل البحرين يقنعون من نصيب دنياهم بالقليل والأقل، ولا يعتمدون على غيرهم ويكتفون بما يمكنهم هم تحقيقه بجهودهم الذاتية.
هؤلاء سمعوا الكثير من الوعود، ورأوا القليل من الإنجازات، ربما لأن هناك فواتير وتراكمات سياسية كان على هؤلاء البسطاء أن يدفعوا ثمنها بما يتعرضون له من الإهمال من الجميع. ورغم جمال منظر الفجر، أمكنني النظر إلى شوارع تحتاج الكثير من التعديل، وإلى بيوت كثيرة تستصرخ الإنقاذ، وإنارة منطفئة قبل أن تتعرض خلاياها الضوئية لنور الصباح. وأما المدارس فهي تختفي تباعاً ولا تعود، فهاهي مدرسة سارة وقد مضت أعوام على انقراضها، وقبالتها مدرسة الإمام الصادق التي تحولت لمركز ثقافي وشبابي مهترئ البنيان وربما أزيل عن الوجود فيما بعد من غير عودة ترتجى.
نصيب هذه المنطقة من الظلام لا يقتصر على وقت الليل، فهي تعيش أمداً طويلاً من العتمة وكأنه عقاب لها أنها كانت تشع وغيرها مظلم، وكانت آمنة وغيرها مضطرب، وكانت متيقظة وغيرها نائم. تعج الدائرة الأولى من المحافظة الشمالية التي تمثل عمق المنطقة بأكبر عدد من السكان من كل دوائر البحرين، والغريب عنها يرى احتياجاتها قبل القريب، ولكن لا بصيص أمل يطل على أحوالها.
تجاهلها الممثلون البلديون، واعتمدت لسوء طالعها أكثر من مرة على ممثلين لها من خارجها، ولا أدري إن كانوا جاهلين لحالها أو متجاهلين، فالحال هي الحال كما يقول اللغويون، منصوبة أو في محل نصب. خصوصاً وأن أي إنجاز في ظل هذا الوضع لا يحتاج للعين المسلحة لملاحظته إن حدث.
وكانت الزيارة الميمونة لصاحب السمو الملكي رئيس الوزراء لها، فاصدر جملة من التوجيهات للتطوير والنهوض بأحوال المنطقة، إلا أن تقاعس المعنيين من مسؤولين حكوميين لم يكن بمستوى همة صاحب السمو في هذا الأمر.
وهذا مثار العجب، فإذا كانت القرارات تصدر بهذا المستوى، فيما يحبو مشروع سوق جدحفص، ويزحف مشروع تطوير الشوارع، وتموت المنشآت المدرسية المرتجاة، وتقبع المؤسسات الخدمية كالصندوق الخيري في مقر مؤقت بلا أرض ولا مبنى مملوك. بعد هذا كله، من بإمكانه أن يعيد الأمور إلى نصابها؟
عدت أتأمل المنطقة مرة أخرى على ضوء الفجر الخلاب، فأيقنت أن لا أحد يستطيع فهم ما تأمله هذه المنطقة إلا شخصا ملأ عينيه من منظر الفجر الصادق فيها كل يوم. وأيقنت أن من كان همه فقط الاستحكام على كرسي هذه المنطقة لا يهمه إن طلع فجرها أو لم يطلع، لكنه بلا شك أمر يهم عشاق الفجر من أهلها فرداً فرداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق