الأحد، 25 ديسمبر 2011

السحلية









الأحد 25 ديسمبر 2011

لسنوات متواصلة، كان في خطبة الجمعة يتكرر ذلك الحديث الذي يدعو إلى عدم الاغترار بالمظاهر الكاذبة و التقوى الزائفة، و أن الرجل يحسن سمته و يطيل صلاته فتحسبه نعم الرجل، فاختبره في المال و النساء و حب خفق النعال و الصيت و الشهرة، فإن سلم منهن فقل عنه نعم الرجل. و كنت أتخيل الحديث يتكلم عن نوع معين من الملتزمين المتمظهرين  بالالتزام، إلا أنني لم استطع تصوره كما بعد مشاهدة ذلك الفيلم الفارسي المترجم و الذي يحمل عنوان “السحلية”.
هذا الفيلم يتكلم عن لص اشتهر بمهارته في تسلقه للمنازل حتى سمي بالسحلية، و لكن بداية هذا الفيلم تعرض القبض على هذا اللص المخادع و إيداعه السجن. و بسرعة يتمارض هذا السجين فيرسل إلى المستشفى. و من محاسن الصدف أن يكون زميله في الغرفة عالم دين يعظه ببعض المواعظ لعله يهتدي من ضلاله القديم. إلا أن بطلنا الزاحف ما أسرع ما يقتنص فرصة دخول الشيخ للحمام ليغتسل، فيبادر بسرقة ثيابه و ارتدائها و وضع نظارة سوداء تخفي هيئته الإجرامية، فيفر من المستشفى لا يلوي على شيء.
و تأخذه غريزة الخطر و حب البقاء و خبرته كمجرم إلى محطة القطار فيستقل الرحلة المتجهة إلى أبعد قرية حدودية، ليبتعد عن الأنظار و المطاردين. و حين تحط قدماه في تلك القرية، يستقبله أهاليها البسطاء بالتهليل و الترحيب، فهم منذ سنين يطالبون الدولة بإرسال إمام جماعة يعينهم في شؤون دينهم، و ما أخطر تعطش الناس للدين حين يختبئ تحت العباءة لص، المشاهد وحده يعلم بحقيقة هذا اللص، و لا يعلم بحقيقة اللص خارج الفيلم إلا الله عز و جل.
وربما كان من سوء حظ السحلية أن رفع أذان الظهر عند استقبال الناس له، فطالبوه بأن يكون إمامهم للصلاة. الرجل لا يعرف الصلاة فضلاً عن الإمامة، إلا أنه تحت وطأة الضغط تقدمهم و كبر و عينه تنظر للخلف لترى كيف يتصرف الجمهور ليتصرف بما يناسبه، كان يكبر ثم ينظر فإذا ركعوا ركع أمامهم و إذا سجدوا سجد بعدهم، حتى فرغ من صلاته. هنا طالبه الناس بخطبة يعظهم فيها و حاول التعذر، إلا أن شوقهم لكلامه  و ضغطهم عليه و خوفه من افتضاح جهله جعلاه يرقى منبراً ليس أهلا له، فصعد ثم تذكر بعض ما سمعه من الشيخ في المستشفى من أن طرق التقرب لله كثيرة كعدد خلقه، فأعادها على مسامعهم و طلب منهم التأمل فيها ثم ختم خطبته.
ليلاً خرج من داره في ثيابه الإفرنجية و ذهب يبحث عن منزل زميل له يحترف تزوير الأوراق الرسمية ليعينه في الهرب من البلاد، فكان أن اثنين من بسطاء معجبي شخصيته الدينية كانا يراقبانه يجول بين المنازل بحقيبة كبيرة، فظنا أنه يتنكر ليلاً لتوزيع الصدقات. انتشرت هذه الإشاعة فقرر أهل القرية جميعهم المشاركة في أعمال البر.
وهكذا كان كل ما يقوم به الرجل يفسر بطيبة الناس تديناً و يدفعهم إلى مزيد من الإلتزام، و ربما يصلح في نفس هذا اللص شيئاً.
ربما كانت ميزة هذا اللص أنه كان صامتاً و منقاداً لأناس كانوا يريدون الخير و يبحثون عن القدوة الصالحة. ترى هل لو كان هذا اللص رجل دين حقيقياً، يأمر الناس بما ترفضه أنفسهم من مر الحق، و ينهاهم عما يهوونه من الباطل، أتراهم كانوا أحبوه؟ لو فعلوه في حينه، لكان أمراً عجباً يخالف طبيعة البشر، الذين ينقادون لأدعياء العلم و يرفضون نصيحة الناصح، فيضطر إمامهم أن يكون مأموماً في كل شئ عدا الصلاة.

آخر الوحي:

أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه            حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا      وحب الشجاع الحرب أورده الحربا
و يختلف الرزقان و الفعل واحدٌ       إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا

أبو الطيب المتنبي

الأربعاء، 21 ديسمبر 2011

خليجنا واحد






الأربعاء ٢١ ديسمبر ٢٠١١


في تغريدة لي قبل أيام على التويتر، قلت أن مشروع الوحدة الخليجية يحتاج إلى خطوات رصينة من القيادة ليتحقق. و حين أتكلم عن خطوات رصينة، فإنني أؤكد على ضرورة وجود تكامل في الموارد و القدرات الإقتصادية و العلمية و الإجتماعية و السياسية. إذ أنه على الرغم مما قد يكون في تقديرنا أن الخطر الإستراتيجي و العسكري كبير على دول المنطقة، إلا أن تحديات التنمية و تطوير نماذج المشاركة السياسية لا تقل خطورة عنه. ذلك أن قصور فهمنا للمتغيرات في الخارج و العجز عن مواكبتها أثبت أنه موجود كقصورنا عن فهم المتغيرات في الداخل، من حيث طموح الشعوب في زيادة مستوى المشاركة السياسية و إيصال أصواتها في تقويم عيوب التنمية في دولنا.
 لقد بدا واضحاً من خلال الربيع العربي أو الفوضى الخلاقة، أن دول العالم العربي و الإسلامي في أغلبها ليست بعيدة عن مهب رياح التغيير، و أنها لا تقف اليوم على أرضية صلبة من حيث رسوخ أنظمتها السياسية، مما سبب مطالب التغيير و الإصلاح التي هبت على دول المغرب و المشرق العربي و الحبل على الجرار.
 و لو تساءلنا عن كم التحديات التي تواجه دولنا العربية لوجدنا الأمن الغذائي و شح المياه و شح الثروة الحيوانية، من ناحية أخرى سنجد تأخراً في إيجاد الطاقات البديلة رغم اعتمادنا في التصنيع على الواردات من دول الشرق و الغرب. و في التنمية الإنسانية سنجد تأخراً في تصنيف جامعاتنا و معدلات مرتفعة من البطالة و دولاً تحت خط الفقر و انخفاض معدلات الدخل في أغلب الدول العربية متواكبة عن مشاكل إسكانية مزمنة. و في النموذج السياسي تغيب المشاركة السياسية الفعالة عن أكثر الدول العربية، و من حيث الشفافية تحتل دولنا مراكز متدنية و تتصدر مراكز متقدمة في الفساد الإداري و المالي.
 واقعٌ صعب، لن يغيره مجرد خطوة إعلان الوحدة الخليجية رغم ترحيبنا الكبير بها. إلا أن هذا الواقع الصعب يفرض علينا أن نعيد النظر فيما عجز عنه مجلس التعاون الخليجي في 30 سنة من إيجاد سوق مشتركة و عملة موحدة و تكامل اقتصادي يحقق أقصى استفادة من الموارد المتوفرة لكل دولة من دولنا.
 وفي مقالٍ مرت عليه سنة بالتمام و الكمال بعنوان “والله حالة” قلت بالحرف الواحد:
“إن توازن القوى في المنطقة يلزمه سياسة خارجية منسقة ومنسجمة، وتقارب ومصارحة بين دول المنطقة يتناسب مع التقارب الجغرافي والفكري والديني. وإنه سواء على مقياس المواطنة أو العروبة أو الدين التي أدعي أنها لا تختلف في ضرورة أن نواجه العالم الخارجي بجبهة موحدة خلف قيادة وطنية ومشروع وحدة إسلامية وعربية مع حفظ حقوق الشعوب والدول من دون تعد على سيادة أي دولة”. اليوم أصبح هذا الكلام في سياقه لنواجه العالم الخارجي بجبهة موحدة و نواة مشروع وحدة عربية، لكنني أكرر على ضرورة قراءة التحديات بصورة صحيحة نحسن فيها التعامل مع كل معطياتنا لتخرج الدول في إتحادها بأقصى الفوائد التي تعود على شعوبها و على الأمتين العربية و الإسلامية.
 يبقى أن أشير إلى أن ما أعلن من توجه لتفعيل اتحاد خليجي لم يكن أمراً مستغرباً ولا خارجاً عن طموحات و تطلعات شعوب المنطقة، حيث يتكلم فصل كامل من ميثاق العمل الوطني عن العلاقات الخليجية، تتوضح منه نظرة البحرينيين قيادة و حكومة و شعباً للمستوى المأمول للعلاقات الخليجية. و أذكر من الفصل السادس “العلاقات الخليجية” هذا النص:
 “وسوف تواصل دولة البحرين مع شقيقاتها الدول الأعضاء في المجلس العمل لتحقيق المزيد من التنسيق و التقارب و التكامل في كيان المجلس خاصة في المجالات التي مازالت تتطلب تنسيقاً أكثر فعالية كالتكامل الإقتصادي و التعاون الدفاعي و التنسيق الإعلامي، هذا بالإضافة إلى الإهتمام بتطوير هيئة المشاركة الشعبية ضمن مؤسسات المجلس”
تتكلم هذه الفقرة بوضوح عن المجالات التي ينبغي زيادة التنسيق فيها، مما لا يترك مجالاً للشرح سواء تطلعات تنمية المشاركة الشعبية أو المجال الإقتصادي و الدفاعي الخارجي أو الإعلامي.
 نتمنى أن تكون هذه الخطوة التي تثلج الصدر بداية للتعرف على مشاكلنا و حلها، لأن التكاتف حين يكون بنية صادقة و بعزمة قوية و قلوب متصافية يمكنه أن يحل الكثير من مشاكلنا. والله من وراء القصد.

آخر الوحي:

أفتيان الخليج ولا خيارٌ
وإن زعم الدعاةُ ولا محيـدُ
و ليس هناك إلا من يطاطي
إلى المستعمرين و من يـذودُ
وما لضياعنا أملٌ يُرجّـى
سوى أن يُجمعَ الشملُ البديـدُ
فيالك أمةً قُسمت ثلاثاً
وعشريناً وتسألُ هل مزيـدُ ؟

محمد مهدي الجواهري

الأحد، 18 ديسمبر 2011

الضوء الأحمر







الأحد ١٨ ديسمبر ٢٠١١


في فيلمه المعبر (التجربة) يقدم لنا المخرج باول شورينج تجربة نفسية فريدة حول نشأة السلوك الإنتهاكي عند رجل القانون و مراحل تطوره مقروناً بالأسباب و الظروف. يدور الفيلم حول مجموعة من الأشخاص يتقدمون للإشتراك في تجربة بحثية يحصل المشاركون فيها على مكافأة مجزية في حال نجاحها. يتقدم هؤلاء و آخرون لسلسلة من المقابلات التي يجيبون فيها على الكثير من الأسئلة التي تستقصي طبيعتهم النفسية و مدى ملاءمتهم للإشتراك في التجربة.
يتم اختيار 26 رجلاً للتجربة التي تستغرق 14 يوماً في ظروف مشابهة لظروف السجن و يتم توزيع الأدوار بين المجموعة يكون بعضهم فيها سجانين و البقية سجناء. يلتزم الجميع بمجموعة من القواعد من ضمنها تنفيذ أوامر قائد السجن، النوم في وقت محدد، تناول وجبة الطعام المقدمة بالكامل مهما كانت سيئة، عدم التعدي على السلامة الجسدية لبعضهم البعض، و فيما تخضع جميع الغرف للمراقبة بالكاميرات، فإن ضوءاً أحمر معلقاً في الأسقف يضئ في حالة تجاوز القوانين معلناً انتهاء التجربة و خسارة كل المشاركين.
من ضمن قواعد السجن أن كل إساءة أو أذى يبدر من السجناء نحو سجانيهم يجب أن لا يمر دون عقوبة تأديبية. و رغم كون العلاقة الودية في البداية فإن إصابة أحد السجناء لسجانه عرضياً بالكرة تدمي شفتيه، و رغم علم الجميع أن الإصابة غير مقصودة فإن خوف السجان من الضوء الأحمر يجعله يعاقب السجين المسن بالقيام ببعض التمارين.
و مع تطور الأحداث و قيام بوادر تمرد من السجناء، يبدأ السجانون في تجربة أنواع العقوبات المذلة من تبول على السجين، و غمس لوجهه في المرحاض و حلاقة لشعره، ثم تصل إلى الأذى الجسدي المباشر. حين تخف وطأة خوف السجان من الضوء الأحمر الذي يبدو أنه ليس بالحساسية المتوقعة، و مع تضخم الأنا للمجموعة المكلفة بالعملية، تبدأ النزعات الشخصية و العقد النفسية في إظهار آثارها على السلوك الفردي و الجماعي للسجانين.
يتحول مع الوقت هؤلاء السجانين لوحوش آدمية يصنعها مزيج من غياب الضوء الأحمر و الإستمتاع بغياب سلطة أي قانون داخل هذه المنشأة عليهم، فينسون خلال أقل من أسبوع أي صداقة سابقة أو رحمة موجودة في نفوسهم. خصوصاً و أن القواعد تحرم عليهم الإشارة لاي سجين بإسمه و إنما مناداته برقم زنزانته. و لا شك أن الإنسان حين يصير رقماً أو مادة لسلطة ما يكون فيها محروماً من حقوقه الأساسية، فإنه ليس أكثر من عبء على سجانه، و مصدراً للمشكلات لا يجوز حتى التعاطف معه في نفسية ذلك العبد المأمور.
وبعيداً عن النهاية التي تحكي حصول تمرد جارف داخل المنشأة ينهي التجربة بعنف شديد، فإن هناك نماذج لم تستطع نسيان آدميتها و حاولت أن تحافظ عليها حتى اليوم الأخير من التجربة. في التجربة لم يكن الإنتهاك سياسة ممنهجة من خارج السجن بل نشأت داخله بسبب القواعد غير الإنسانية و غياب الإشراف و إختيار شخصيات تحمل في داخلها كرهاً لنفسها و لمجتمعها. لكن السلطات بعيد انتهاء التجربة لم تحاسب أي فرد من المجموعة بل ألقت باللائمة على صاحب الكاميرات و الضوء الأحمر، و هو الشخص المسئول عن غياب الإشراف اللازم.
في أفلام سابقة عرضت الظروف داخل السجن لم أتمكن من الحصول على نفس الفهم، إلا ان هذا الفيلم بطبيعته التجريبية كان قادراً على تصوير التحولات النفسية و السلوكية بشكل تدرجي مشوق و مثير للإهتمام و كأنك مشارك في إلإشراف على التجربة.

آخر الوحي:
كفانا..
نحملق في بعضنا في غباء
ونحكي عن الصدق والأصدقاء
ونزعم أن السماء..
تجنت علينا..
ونحن بكلتا يدينا
دفنا الوفاء
وبعنا ضمائرنا للشتاء..
نزار قباني

الأحد، 11 ديسمبر 2011

النذير العريان





الأحد ١١ ديسمبر ٢٠١١


في حديث لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه  وآله و سلم، يقول “أنا النذير العريان” والنذير العريان بحسب ما يذكر تراث العرب هو ذلك الرجل الذي يقف في أعلى الجبل أو الهضبة ليراقب حدود المدينة ثم ينذر قومه بالخطر المحدق بهم في حينه. و حيث أنه يكون بعيداً فلا يمكن سماع صوته فإنه يخلع قميصه أو ثوبه و يلوح به للناس. بهذه الطريقة يمكن رؤية إشارة هذا الرجل و التي هي أبلغ ما تكون في وضوحها للناظر بسبب التلويح بالثياب، و أبلغ في معناها بسبب كون الرجل غير عابئ بأن يعرى ليبلغ قومه بالعاجل من الخطر المقبل.
و في عمل مرئي تم تصويره لتوثيق أمثال الحديث النبوي، تم إيصال فكرة النذير العريان بطريقة مختلفة، حيث جاء النذير يعدو فأبلغ الناس بفحوى كلامه ثم خلع قميصه و قال: لقد رأيت الجيش بأم عيني، و إني أنا النذير العريان.
و خلاصة هاتين الصورتين، أن من استمع لكلام الرجل نظر إلى ما فعله لا جنوناً و لا مجوناً و لا خروجاً عن الأدب، و إنما نظر إليه كدليل على مدى جديته في التبليغ بخطورة ما يحصل.
إلا أن ذلك العمل المرئي يسرد بقية الحديث في أن هناك قوماً استمعوا للكلام فعجلوا بالإستجابة لفحواه، فاستطاعوا تجنب الخطر القادم، و أناس سخروا و تجاهلوا فكان أن ظفر بهم من كانوا قادمين من وراء الجبل لغزوهم و سبيهم.
بالأمس القريب خرج علينا تقرير بسيوني حاملاً معه كثيراً من التفاصيل التي تحتاج إلى التعاطي الجدي، لأن ما أظهره التقرير من حقائق لا ينبغي إغفالها بعد أن أثبتت ووثقت لأن الإهمال في التصحيح سيكون عاقبته تعمق شرخ الثقة الذي قلنا من قبل أن جلالة الملك قد وضع يده على الوتر الحساس حين تكلم بصراحة تامة عن وجود مشكلة ثقة كان علاجها في تشكيل لجنة تقصي حقائق.
اليوم حين لا يتم عاجلاً تنفيذ التوصيات التي تمنع حدوث التجاوزات و الإنتهاكات مستقبلاً فإن تقرير اللجنة سيكون ضد البحرين و ضد اللحمة و المصالحة و الإستقرار، شأنه في ذلك شأن بعض تقارير الأجهزة الرقابية التي لم تفعل توصياتها بصورة مناسبة في الأعوام السابقة.
و بعيداً عن موضوع تقرير بسيوني، فإن من الطبيعي أن نجد في هذه الأيام أقلاماً و أصواتاً تدعو للفرقة، ذلك لأن التأزيم هو ما يمكن هذه الأصوات من الظهور و هي التي تختفي بعودة المجتمع إلى التقارب و الإنسجام. بعض هذه الأقلام قد عملت جاهدة لتشويه صورة كل من حاول إيصال الحقيقة حول هذه الإنتهاكات للقيادة، و كان أن بعضهم قد استقالوا أو لوحوا بالإستقالة من مناصبهم لتوضيح خطورة ما كان يحصل، فكان أن تعرضوا للتخوين و تم الإنتقاص من وطنيتهم، و كأن الوطنية تعني فقط سيادة القانون و لا تعني سيادة حقوق الإنسان و كرامة الوطن عبر كرامة مواطنيه و حمايتهم من أي انتهاك أو مساس بسلامتهم و أمنهم سواء كان ذلك من طرف الجهات أو الأشخاص أو من التصرفات الشخصية. هؤلاء كانوا النذير العريان يومها، لا لأنهم يريدون الفرقة، ولكن لأنهم يرون المصالحة و الحوار و الرفق حلاً لمشاكل الوطن.
و من نفس الزاوية، يثمن البحرينيون عالياً موقفين لسمو ولي العهد أولهما عند ظهوره المفاجئ على الشاشة و دعوته للتهدئة و الحوار في بداية الأزمة في فبراير، و ثانيهما في الأسبوع الماضي عند تدخله لمنع حدوث الخلافات في المحرق العزيزة. و فيما لا أشك أن مواقف النصيحة المخلصة الصادقة و الداعية للوحدة و نبذ الفرقة لم ولن ترضي دعاة التشدد و التأزيم، فإنني كذلك لا أشك أن الغالب في نفوس أهل هذا البلد مثل قيادته من حب الخير سيعيد لنا البحرين التي عرفناها دوماً في التآلف و المودة و الرفق بلا ضعف ودون تضييع لحق أحد.

آخر الوحي:
أفتيان الخليج وكل زرعٍ وبئٍ
سوف يلفظه الحصيدُ
وسوف يرفُ بعد اليوم ظلٌ
على جمراتِ هاجرةٍ مديدُ
سيُبدل من صدى نغمٍ شقيٍ
بأنغام المنى وترٌ سعيدُ
فإن تك أطبقتْ جُدرُ الليالي
فسوف يُشقُ من فجرٍ عمودُ

محمد مهدي الجواهري

الأربعاء، 7 ديسمبر 2011

عثر الدهر






الأربعاء ٧ ديسمبر ٢٠١١



إحياء ذكرى فاجعة الطف بمقتل سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ليست مبالغة ولا إفراطاً في الحزن كما قد يتبادر إلى أذهان بعض أهل هذا الجيل. هذا الرعيل الذي يرى تقادم الأيام على الحوادث، يغفل عن أن يرى هذه الأحداث في سياقها و تسلسلها، و كيف شكلت انتكاسة في تاريخ الإسلام و موقف نظام الحكم بعد الإسلام مع علم من أعلام أهل بيت النبوة.

فلو عاد المرء بالذاكرة ما بين عامي ٦١ للهجرة إلى أن يصل إلى العام العاشر أو التاسع للهجرة، فسيجد الإمام الحسين في حجر رسول الله صلى الله عليه و آله يشمه و يقبله، و سيسمع عنه مدحاً لا كمدح الجد للحفيد و التحبب إليه، إذا كنا نسلم أن نبي الرحمة لا ينطق عن الهوى بل يبلغ ما يوحى إليه من رب العزة. سنسمع صفة سيد شباب أهل الجنة، و هو مقام يستدعي التوقف و يسترعي الإنتباه، و قد أشرنا إليه في مقال سابق. هذا المقام له مقتضيات و تترتب عليه عدة أمور، و لكن بالتأكيد هو مقام يدل على الفضل. و حيث أن الفضل عند الله لا يكون بالوراثة، فنحن في هذه الحالة أمام أحد أفضل أهل الأرض قاطبة في العمل، و يشمل ذلك المؤمنين من الأولين و الآخرين، لأن الجنة منتهى كل أهل رضوان الله من الأولين و الآخرين و من جميع الملل.
 هذا من حيث عظمة صاحب القضية التي نتكلم عنها، فلو أضفنا إلى كونه أفضل أهل دولة الإسلام جميعاً، و ربطنا ذلك بمقتله على يد جيوش هذه الدولة. حقيقة هو حادث يجعل الحليم حيران، فليس من المعقول أن تفعل أي دولة في التاريخ ذلك، ربما تكرمه و تقربه، تحاول احتواءه إن كان رأس الدولة على اختلاف معه، و لكن أن يكون ما كان فهو أمر يقتضي وجود مشاعر ثأر يعمي عن حقائق الأمور ثم يجب أن يكون كل من أمر و باشر و هيأ لهذا الأمر بمجمله و تفاصيله على طريقة أخرى لا تعرف مقام الحسين في السماء ولا الأرض.
 أما حين نتكلم عن مقام قرب الحسين للنبي و محبته له، فإنه ما جرت مصيبة على قرابة النبي تستحق كل الحزن و الأسى و تستحضر فشل الأمة في أداء حق المودة في القربى للنبي كما حصل في مقتل الإمام الحسين و التمثيل به و سبي نسائه. فلذا كان الحزن لهذه الأمور مواساة لحزن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الذي بكى في أكثر من موقف لعلمه بما سيجري على ولده الحسين.
يشهد بكل هذا الكلام، ما كان يقابل به الإمام الحسين في زمن الخلفاء واحداً فواحد من احترام و معرفة بقدره عليه السلام، بل استمر الوضع في ذلك إلى أيام معاوية.
 فلمثل الحسين و لمثل ما جرى على الحسين و لمثل من في شرف الحسين و فضله و مقامه من رسول الله فليبك الباكون و ليندب النادبون.
السلام على الحسين و على علي بن الحسين و على أولاد الحسين و على أصحاب الحسين.

آخر الوحي:

 عثر الدهر ويرجو أن يقالا تربت كفك من راج محالا
اي عذر لك في عاصفة نسفتَ من لكَ قد كانوا الجبالا
فتراجع وتنصّلِ ندماً أو تخادع واطلبِ المكرَ احتيالا
أنزوعاً بعد ما جئت بها تنزع الاكباد بالوجد اشتعالا
قتلت عُذرك إذ أنزلَتها بالذرى من هاشم تدعو نِزالا
فرّغِ الكفَّ فلا أدرى لِمن في جفير الغدر تستبقي النبالا

السيد حيدر الحلي

الأحد، 4 ديسمبر 2011

سيد الشباب





معضلة كبرى تلك التي تواجهك حين تهم بعمل أي شيء يرتبط بالإمام الحسين، حتى على مستوى كتابة أبيات من الشعر أو صياغة مقال أو إعداد كلمة تلقى. ليس لعجزك عن الكتابة أو كونك مبتدئاً أو لقلة ما يمكن كتابته، و لكن لعظم الشخصية التي تضعها أمام ضوء ريشتك لترسم أو بجوار أذنك لتسمع ما قاله التاريخ فيها.
و يأخذك الخيال حينها و تتخيل دهاليز المدينة و طرقاتها و هو يحث السير لمقابلة واليها الذي يدعوه للبيعة ليزيد بن معاوية. الرجل سيد شباب أهل الجنة، فإذا كنا منتبهين لما تخطه كتب السيرة عنه، نجد أن من الأولى أن يكون هو داعياً لبيعة أحد ما. نصدم صدمة أخرى حين نجد أن بيعته مطلوبة تحت حد السيف، يبايع أو يقتل. حتماً هنالك شئ خطأ، و بدون أن نعرف شيئاً عن سيرة يزيد أو عن أسماء و أخلاق ولاته، فإن دعوة سيد شباب أهل الجنة للبيعة تحت حد السيف يبعث بالتساؤل حول سبب الرغبة في إكراهه على البيعة، و لماذا يفترض الوالي أو مولاه أن الحسين لن يبايع إلا تحت التهديد.
و يقرر السبط أن يحيل حجته إلى عمرة و يغادر الحجاز أرض الحرمين، و لكن قبيل ذلك، يدعو الناس للخروج معه، و يعظم من عجبهم و عجبنا بقوله أن من خرج معه استشهد، و من لم يخرج لم يدرك الفتح. بان جلياً أن الإمام ينعى نفسه حتى قبل أن يخرج، و كأن كل التحليلات تقول أنه مقتول في جميع الأحوال. بل حتى أن من علل خروجه أنه يريد أن يجنب مكة أن تهتك حرمتها بقتله فيها.
و يخرج حتى تحط الرحال به في كربلاء بعد أن أكره على تغيير طريقه المتجه إلى الكوفة و منع من العودة إلى المدينة لما أراد ذلك، حتى أحاطت بخيامه جيوش يصل عددها إلى ثلاثين ألف أو سبعين ألف بين فارس و راجل.
في الليلة الأخيرة يضرب على أسماعنا بكلمة لها أثر الزلزال في نفس كل من تسول له نفسه أن يدعي أن الحسين خارج طلباً للحكم. فهاهو يعفي رجاله و أصحابه من المكوث معه و يشير عليهم بتركه و الإنسحاب في جنح الظلام. و يعلل لهم ذلك بعلمه أن القوم إنما يريدونه هو لا غيره، و كأنه لا يجد مبرراً لإهراق ملئ محجمة دماً دون حاجة. و قرر التاريخ ليلتها أن أصحابه كانوا أيضاً من الطراز الأول في النبل و الفداء حين رفضوا عرضاً كهذا يحفظ لهم حياتهم دون تثريب دنيوي ولا أخروي.
في يومه الأخير، طلب من أعدائه أن يخلوا بينه و بين الرجوع إلى حرم جده في المدينة، أو أن يتركوه ليتوجه إلى ثغر من الثغور يكون فيه مرابطاً، إلى غير ذلك من الخيارات التي ألقت الحجة على القوم في أنهم يريدون قتله بكل الأحوال، و أعيد التذكير مرة أخرى أنه سيد شباب أهل الجنة، و بمعنى آخر فليس على الأرض يومها من هو خير منه. إذ لو كان هناك خير منه ليكون سيداً لدار الفناء، فهو أجدر منه أيضاً بسيادة دار البقاء.
سجل التاريخ أن القوم منعوا بكل وسيلة أن يحصل الحسين على أي قطرة من الماء، فظل بأبي و أمي ظامئاً في الأيام الثلاثة الأخيرة من حياته، و سجل أن رأسه قد قطع، و سجل أن جسمه سحق بعدها تحت حوافر الخيل، و سبيت نساؤه، و سلب حتى من الثياب، و ترك جسمه في العراء دون دفن.
لقد كان مقتله مصيبة على الأمة في أخلاقها و مبادئها، سواء في مجمله أو بتفاصيله، لدرجة أن هناك من تدفعه الصدمة إلى القول بأن ذلك الفعل اجتهاد شخصي من عبيدالله بن زياد و البعض يتهم به قاتله المباشر شمر بن ذي الجوشن، و البعض يستنكر خروج الحسين من المدينة ليعفي نفسه من علامة الإستفهام الكبيرة التي خلفها مقتله عليه السلام. و الواقع و التاريخ يقولان أن هذه الأمة قد كان منها ما كان من سابقها من الأمم كما أخبر بذلك الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم حيث يروى عنه أنه قال “لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر , وذراعاً بذراع , وباعاً بباع , حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم” . و لا يخفى على أحد أن قتل الأنبياء و أولاد الأنبياء هو مما حصل في الأمم السابقة و لا بد من مثيله في أمتنا.
سيدي يا سيد شباب أهل الجنة، يا سيد أهل البيت في زمانك، يا أفضل صحابي في زمانك، يا ابن بنت رسول الله، لو كانت مصيبتنا تنحصر فيما دون قتلك و التمثيل بك و سبي عيالك و تقتصر على معاداتك و إخراجك بالتهديد من حرم جدك لكان هذا كافياً لأمتنا أن تستذكر أبد الدهر هذا اليوم بكل الحزن و الأسى لما وصلت إليه من انحدار و عصيان لتعاليم و وصايا جدك خاتم المرسلين، ولجرأتها على مقام سيد الخلق و انتهاك حرمة أهل بيته.

آخر الوحي:
 مثل ابن فاطمة يبيت مشردا ... ويزيد فـي لذاتــه متنعم
يرقى منابر أحمد متأمراً ... في المسلمين و ليس ينكر مسلم
ويضيق الدنيا على ابن محمد ... حتى تقاذفه الفضاء الأعظم
خرج الحسين من المدينة خائفا ... كخروج مـوسى خائفا يتكتم
وقد انجلى عن مكة وهو ابنها ... وبه تشرفت الحطيم و زمزم (بتصرف عن المنشور في الصحيفة)
السيد جعفر الحلي

الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

الدمعة الساكبة





الأربعاء ٣٠ نوفمبر ٢٠١١


لا خلاف أن كثيراً من المسلمين يرون البكاء على الحسين من الصالحات التي تحط الذنوب و يعدونها في أمهات “المودة في القربى” التي هي أجر الرسالة الذي يبذله المسلمون لنبيهم الذي لا يسألهم أجراً غيره. فهل تغير شئ في عقيدتهم هذه أم ما زالوا عليها؟ أقول أن هذه العقيدة في إحياء مصيبة الحسين عند أتباع المذهب الإثناعشري هي من الجبال الرواسخ التي لا تزلزها الحوادث ولا تغيرها الأيام و لا مرور السنين و القرون.
 و ربما كان هذا الثبات على هذه العقيدة سبباً في طموح طلاب السياسة في الإستفادة من مأتم الحسين عليه السلام في تحقيق أهدافهم و إسباغ القدسية على قضاياهم و الوصول لمآربهم بغض النظر عن كونها نبيلة أو غير نبيلة. و لعل ذلك بسبب تفهم أصحاب القضايا السياسية من خلال تجارب السابقين لهم أن الدخول للسياسة من باب التصادم مع الدين لا يحقق ثمرة عاجلة في مجتمع متدين. و هنا كان لا بد من الإلتفاف على القضايا الدينية و إدخال السياسة للناس من أبوابها و تحقيق الأهداف. يفتح هذه الأبواب ابتداءاً أشخاص هم في الأساس غير متدينين، ثم يتبعهم فئاة من مغفلي المتدينين و من طامحي السياسة من البراغماتيين.
 ما ينطبق في المأثور على دخول إبليس للعابد من باب العبادة، و ما انطبق على جميع الطامعين في السياسة على مر العصور سينطبق على من يحاولون أن يحرفوا رسالة المأتم في سعيهم لتحويله إلى دكان حزبي يتبع هذا التيار و ذلك الحزب و هذا التوجه. سينطبق على من يختزلون قضيته في ثائر مظلوم مقتول، أو طالب حكم مغلوب و ينزعون بذلك القدسية التي تحيط بسيد شباب أهل الجنة و سبط الرسول و إبن سيدة النساء و شبل فتى الإسلام الأول. لماذا ينزعون هذه القدسية؟ لتكون ميراثاً و حلة يرتديها كل صاحب قضية سياسية، و حاشا لمقام الحسين أن يقرب منه أي من طلاب المناصب السياسية.
 من يريد أن يخلع على نفسه هذه الخلعة المقدسة ليكون حسين العصر سيرتقي المنبر، ثم سيقول بأن الحسين لم يقتل لنبكي عليه. كلمة حق أريد بها باطل!! قتل من أجل هدف أجل و أسمى، ثم يشرع في شرح أهدافه فيجعلها أهداف الحسين. و لأن حب والد الأئمة صار في نفوس محبيه سلطاناً لا يغلب، فعمد المجددون كما يسمون أنفسهم للسعي في “توظيف الدمعة”! و كأن الدمعة على الحسين أداة كدموع هؤلاء عند مخاطبة الحشود، كلا فالدمعة على الحسين لا تحتاج من يوظفها، إنما أثبتت قدرتها على توظيف القدرات و المهارات و الإمكانيات لخدمتها.
 و في ذات سياقنا يقول العلامة المدني في تنزيه الشعائر الحسينية “ أما من كان له حسين غير حسين ابن علي ابن أبي طالب و غير ابن فاطمة و في عصر غير عصر يزيد ابن معاوية و في كربلاء ليست هي كربلاء الطفوف، من كان له حسيناً غير هذا الحسين فليعمل له مأتما كما يشاء، و ليقل فيه ما يشاء، و يعمل فيه ما يشاء، لا أن يستغل شيعة الحسين بن علي بن ابي طالب من أجل حسين غير حسين ابن علي ابن أبي طالب و غير كربلاء هي كربلاء الطفوف، من أجل حسين آخر يعيش في عصر آخر، كما يقول حسين البحرين و كربلاء البحرين فليس في البحرين حسين و ليس في البحرين كربلاء”.
 سيظل بكاءنا عليك يا مولاي يا أبا عبدالله تفجعاً لمصاب رسول الله في مقتلك و ظلامتك، لا طمعاً في دنيا و لا سعياً لمكسب و لا بحثاً عن خفق النعال. إن مقاماً كمقامك ولا مقام كمقامك، هذا المقام لا يملك الإنسان أمامه إلا أن يخشع في الجلال الذي جعله الله لك منذ جعلك سيداً لشباب جنته يا قتيل الدمعة الساكبة.

آخر الوحي:

أنا دمعـةٌ عُمْرُهـا (أربعـونَ) جحيمـاً مـن الأَلـمَِ المُـتْـرَعِ
هنا في دمي بَـدَأَتْ (كربـلاءُ) و تَمَّتْ إلـى آخِـرِ المصـرعِ
كأنّـكَ يـومَ أردتَ الـخـروجَ عبرتَ الطريقَ علـى أَضْلُعـي
ويومَ انْحَنَىَ بِـكَ متـنُ الجـوادِ سَقَطْتَ ولكـنْ علـى أَذْرُعـي
ويـومَ تَوَزَّعْـتَ بيـن الرمـاحِ جَمَعْتُـكَ فـي قلبـيَ المُـولَـعِ

محمد مهدي الجواهري

الأحد، 27 نوفمبر 2011

في الجو








الأحد ٢٧ نوفمبر ٢٠١١


ربما كان مما أنعم علي ربي أنني لا أخشى الطيران، ولا أتخوف من ركوب الطائرة. فرغم الإحتمالات السوداوية الكثيرة التي من الممكن أن تضعها نصب مخيلتك و أنت تربط الحزام، إلا أن عقلي لا يستحضرها كثيراً إلا في اللحظات الحاسمة أو عند ظهور مؤشرات على الخطر، أبعدنا الله جميعاً عن هذه المؤشرات و عن كل ما قد يلحقها من سوء.
نعم هناك لحظات يشعر فيها الإنسان كم هو معلق بيد القدر، وهي واقعاً ليست اللحظات الوحيدة، إلا أن عند هذه اللحظات يكشف غطاؤك عنك فبصرك اليوم حديد. و في ماعدا هذه اللحظات المعدودة يعيش الإنسان مقداراً كبيراً من الغفلة ربما أعانه على إدارة شؤون حياته، و ربما مكنه من النوم بهناء.
 في هذا العام عشت عدداً لا بأس به من هذه اللحظات القدرية الحاسمة، و من يدري فلعل كل لحظاتنا حاسمة، بعض هذه اللحظات كان في الجو و بعضها في البحر و الآخر على سرير المستشفى بانتظار مبضع الجراح.و ربما كانت لحظات أخرى كثيرة خلال الأشهر الماضية فيما عاشته بلادنا من ظروف و ليالٍ ليلاء.
في لحظات الحسم، يتوجب على الإنسان إزالة مخاوفه بقدر ما يستطيع ليتمكن من التفكير المنطقي بعيداً عن أي وساوس لن تفيده بقدر ما ستعقد أموره و تعجزه عن التصرف المناسب و السليم. أولاً يجب التفكير في ماهية الخطر المحدق، ثم تهيئة النفس بأخذ نفس عميق لمجاراة دقات القلب المتسارعة و الإستعداد للتمكن من الإستفادة القصوى من دفقات هرمون الأدرينالين المندفعة في الشرايين. قد تصل النفسية إلى حالة من الهلع ينبغي التعامل معها بمقدار من الإيمان و التسليم لله و ليس الإستسلام للنهاية و اليأس.
تمكنك من تقييم الوضع بصورة صحيحة سيتيح لك التعاطي معه بأفضل وسيلة متاحة. لكن الشئ الأهم هو عدم الإستسلام للخوف أبداً و محاولة تجنبه أو تقليله حتى إذا كان قهرياً أو مرضياً.
و باعتقادي أن أكبر مشكلة في ما نقع فيه من ظروف و اختبارات، ليس تعرضنا لظروف جديدة، بقدر ما هو صدمتنا مما نكتشفه عن أنفسنا و كأننا نقف أمام المرآة لأول مرة، و ننظر إلى شخص مختلف مرتعد الفرائص مرتجف الكفين أصفر البشرة غائر العينين. هذا الشخص الجديد هو عائق من التصرف السليم يحتاج أن يساعده أحد ما، و المشكلة انه لا يظهر إلا في الظروف التي لا يمكن لأحد مساعدته فيها.
تراودني أسئلة كثيرة عن هذا الشخص الرعديد، هل يكثر حضوره مع تقدمنا في السن أم يقل، هل يتأثر حضوره من عدمه بما نتناوله من طعام، و بمقدار ما نزود أجسامنا من الراحة، هل يتواجد أكثر مع تسارع إيقاع الحياة أم مع بطئها. الغريب أن ما لاحظته هو أنني أجد هذا الكائن الرعديد حاضراً معي قبيل اللحظات السعيدة أو الهامة أكثر من اللحظات الموسومة بالخطر.
ربما كان ذلك شعوراً طبيعياً لأن الإنسان يخشى دوماً على سعيد لحظاته من التنغيص، قبيل التخرج، قبيل الحصول على رخصة القيادة، قبيل ليلة العمر أو في انتظار مولود أو نتيجة امتحان.
ربما كان مؤلماً وقوع ما كنت تخشاه، و لكنه يجب أن لا يكون نهاية العالم بالنسبة إليك، فلو استمرت حياتك فيما بعد فهي نعمة كبرى يجب أن تنعم بها و تستمتع. و أما إن لم تستمر، فلن يعود هنالك ما تخشاه بالنسبة لحياتك هذه على الأقل.
يجب أن تسعد بمعرفة ذلك الكائن الرعديد الذي يعيش بداخلك الذي ستعرفه في لحظات ما، كما تسعد بمعرفة الكائن الأناني القابع في وجدانك، و تتعامل برفق مع الطفل بداخل شعورك ولا شعورك، فكل هؤلاء يجب معاملتهم بما يستحقونه لتتمكن من حل مشاكلهم. لن يكون ذلك صعباً، المشكلة الوحيدة في أن تتعلم كيف تراهم و تراقب سلوكياتهم.
ملاحظة:
و الطائرة تحط بنا الآن أعتقد أن فرصة سنحت للتعرف بذلك الجبان خصوصاً و الكابتن قد رفع الطائرة مرة أخرى في الجو بعد أن حاول لمس المهبط فلم يستطع، هاهو يرتفع ويقوم بلفة على المطار ليعيد الكرة من جديد، الله يستر !!!

آخر الوحي:
سيدتي يقتلك البرد؟!
أنا يقتلني نصف الدفء و نصف الموقف أكثر...

مظفر النواب

الأحد، 20 نوفمبر 2011

قدسية الكلمة





الأحد ٢٠ نوفمبر ٢٠١١


قلت له إن شئت أن تنقل عني فلا تنقل شطراً دون شطر، فإن حذف بعض الكلام بقصد أو بغير قصد يجعل المعنى موجهاً في غير ما قصده صاحبه. بل إن من الكلام ما لو بتر صار يعني عكس معناه. و ربما كان من مثال ذلك عبارة “لا إله إلا الله”، فهي كما كان يقول أستاذنا مدرب السياقة المرحوم الحاج حسين، كلمة أولها كفر و آخرها إيمان.
 و هب أن أحدهم نقل عني أنني قلت “لا إله” دون أن يكمل النقل، حينها سأكون عند المتلقي من ضمن الملحدين الذين ينفون وجود إله من الأساس. و لن يكون من السهل تغيير هذا المعنى و تحصيل كل من وصل إليه النقل لتصحيحه عنده، لأن الأخبار السلبية ولله الحمد تسري لدينا سريان النار في الهشيم. بل إنها كم يقول المرحوم العلامة المدني في محاضرته حول الإشاعة : “ و مجتمع البحرين بسبب ضيقه تسري فيه الإشاعة بسرعة فائقة، فيكفي أن تلقي الكلمة في الحد و تسرع بسيارتك حتى تصل إلى الزلاق فتجد أن الكلمة قد سبقتك”.
 أقول هذا و كثير من النقولات تكون بحسن نية و تؤدي إلى مشاكل مجتمعية كثيرة، فكيف البتر المتعمد و ما يجر من سوء الظن و التخاصم و التقاطع و التدابر؟
 أذكر مرة أنني تلقيت مؤخراً رسالة من صديق عزيز على نفسي، يقول لي فيها أنه قرأ لي رأياً فتعجب منه، إذ أنه وجد كما لو أنني كنت محايداً من القضية رغم علمي بها، فكان ما كتبته هروباً أو تمويهاً. قال لي بالمعنى أنه لا يظن النص كاملاً، فأرسلت إليه النص الكامل. قال لي حينها: توقعت ذلك و ما ظننت ما قرأته يخرج من بين قلمك و أوراقك.
 وباب الشاهد في هذه القضية أننا يجب أن نلتزم بأحد إثنين، إما نقل الكلام كما هو، أو عدم نقله من الأساس. و إن لم يكن كذلك، تحول المنقول إلى باب من أبواب الإشاعة التي تؤدي إلى إلهاء أو توجيه قد نرغب فيه أو يكون بغير قصد.
 هذا و قدسية الكلمة اليوم، مبدأ يجب أن لا يغفل أحد عنه في زماننا خصوصاً مع سهولة التثبت من قائل أي كلمة و التواصل معه من ناحية، و بسبب أن انتقال الإشاعة اليوم أياً كانت صار أسرع من أي وقت مضى بسبب تطور وسائل النشر و التواصل أيضاً.

آخر الوحي:
ليس هنالك وطنٌ آخر قد آواني
إلا الكلمة ..
ليس هنالك في تاريخي .. امرأةٌ أخرى
إلا الكلمة ...

نزار قباني 

الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

الشعب يريد










الأربعاء ١٦ نوفمبر ٢٠١١


منذ أن ظهر ذلك الرجل التونسي على الشاشة وهو يهتف بهذا الهتاف الشهير، بدأت معه موجة الفوضى الخلاقة في شتى بلاد العرب. و انتقلت الحمى بين مصر و اليمن و سوريا و ليبيا. موجة محمومة اختلفت محركاتها بين كل دولة و أخرى فبين صفعة البوعزيزي و موقعة الجمل الشهيرة وحوادث مختلفة حصلت في مختلف بقاع بلاد العرب كانت الشرارة لنيران عارمة التهبت بفعل تخزين مسببات الأزمات.
اليوم دول العالم و بالذات العربية منها هي بين اثنتين إما هي واعظة أو مبتلاة، و صدقوني أن الأولى ليست خيراً من الثانية، فبلاؤها القادم سيكون بلا شك مثل أخواتها إن لم يكن أكثر. وكلامي هنا لا يندرج في سياق التمني بقدر ماهو استقراء لظروف هذه الدول اجتماعيا و سياسياً. فكل دولنا العربية بلا استثناء متشابهة من حيث مشاركة المواطن في القرار السياسي، و متشابهة في تدني المستوى المعيشي إذا رفعنا بعض الدول الخليجية من المقارنة.

أقول أن الدول المبتلاة بأحداث سياسية و ثورات هي أقل بؤساً من الأخرى التي تنتظر دورها، لأن الدول الواعظة –إن صح التعبير- أبعد ما تكون عن الإعداد لتجنب هذه الأزمات عبر خلق بيئة من المشاركة السياسية و التنمية الإقتصادية. ما زالت هذه الدول تركز على الإستعداد العسكري، علماً بأن الأخطار المحدقة بها ستكون غالباً من الداخل و ليس من الخارج.
 اليوم ما عاد الخيار العسكري محبذاً لدى القوى العالمية، و ذلك بسبب ارتفاع تكاليفه المتعددة و المتنوعة. فانتهجت هذه الدول منهجاً جديداً للتغيير عبر دعم المعارضات و الحركات الثورية من جانب و رفع غطاء الشرعية و الدعم من جانب آخر.
 إن رئيساً كالرئيس المصري كانت تسمع الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة تذمره و مطالبته بالتغيير منذ أمد طويل، إلا أنه حين جاء وقت التغيير، رفعت دعمها بدعوى أن “الشعب يريد”.الشعب يريد منذ عقود، فما الذي استجد؟
ما استجد هو مواكبة هذا الحراك مع التوقيت الذي صار التغيير فيه ضرورياً لضمان انتقال سلس للسلطة، لا يعرض المصالح الأمريكية لهزات غير متوقعة. فالانتقال المفاجئ لن تكون عواقبه محمودة بالضرورة، لذا كان لا بد من استباقه و الإستفادة منه من ناحية، و عدم كبح جماحه حتى يحقق الربيع العربي أو “الفوضى الخلاقة” ذلك الغرض المنشود.
 أنا لا انفي كلياً أن الشعب العربي يريد، و لكن الشعب العربي لعقود كان يأكل هواء بين طغيان صدام و غطرسة القذافي و علمانية بورقيبة. هل الشعب أراد الحياة فاستجاب القدر، أم استجابت القوى العظمى، أم أنه لا فرق عندنا بين الإثنين فصرنا نعبد هذه القوى فصارت أقدار الشعوب بيدها.
طريف أن أحد الأقارب في جلسة مع بعض الإخوة المصريين طرح موضوع الفوضى الخلاقة و دورها في تونس فاستحسنوا كلامه، فلما أراد أن يشرح الحالة المصرية على نفس المنوال، كاد إخوتنا المصريين يتخاطفونه بأيديهم و أسنانهم ربما.
 اليوم و للأسف الكل يتكلم باسم الشعب العربي، و ما يريده الشعب العربي و يصبو إليه الشعب العربي. المعارضة تتكلم باسم الشعب، و دول الجوار تتكلم باسم الشعب، و الدول الكبرى باسم الشعب، و الموالاة تتكلم باسم الشعب، و الحكومة تتكلم باسم الشعب. أي شعب هذا ؟ شعب المعارضة الذي يريد مشاركة سياسية، أم شعب دول الجوار الذي يريد وصاية؟ أم شعب الدول الكبرى الذي يريد ضمان مصالحه الإستراتيجية، أم شعب الموالاة المستفيد من الوضع القائم، أم شعب الحكومة الذي يريد أن يعمل من هذه الشعوب كلها صورة تذكارية متحابة و يواصل المسير؟!

آخر الوحي:

أغرك من سلمى دنو خيالها
فصرت بهذا طامعاً في وصالها
رويدك لا يذهب بك الجهل مذهباً
به ضل من قد كان قبلك والها
فما أنت كفؤ في الهوى لوصالها
ولا خطرت ذكراك يوماً ببالها
و ما أنت إلا طامعٌ بأهلةٍ
رأى فوق رسم الماء رسم خيالها

د. ناصر المبارك

الأحد، 13 نوفمبر 2011

تلك الحقيقة**





الأحد ١٣ نوفمبر ٢٠١١


منذ تم تعيين اللجنة الملكية المستقلة لتقصي الحقائق في أحداث فبراير و مارس 2011، توجهت إلى رئيس اللجنة السيد بسيوني الأنظار و الألسن و المقالات. حاول البعض النيل من استقلاليته و الضرب في مصداقيته أو تعليقها على ما يصدر عن تقريره الموعود في الثالث و العشرين من الشهر الجاري. الكثيرون يترقبون هذا التقرير، فالقيادة تعول عليه و الشعب ينتظره و الجمعيات تترقبه. بدورها الدول الأخرى المتابعة و المهتمة بالشأن البحريني تنتظر منه الكثير. فقد علقت عليه هيلاري كلينتون في الأسبوع الماضي و كأنما تشير إلى أنه يجب أن يكون نقطة التحول في الشأن الداخلي لإنهاء الأزمة.
اليوم و قد فرغ الجميع من رسائلهم القولية و العملية الموجهة إلى السيد بسيوني، لا يفوتني أن أوجه بعض ما أعرفه للسيد بسيوني عما عرفته و عاينته. فقد قرأت في صحيفة الأيام بتاريخ 21 سبتمبر 2011 الكلام حول زيارة لجنة تقصي الحقائق للمساجد المتعرضة للتدمير الجزئي و الكلي، و أتذكر كيف قيل في بعض وسائل الإعلام يوماً ما أن ما هدم إنما هدم إما لعدم وجود ترخيص أو لأنه بني في أرض غير مملوكة، و زبدة القول أنه بناء غير قانوني.
قد يقول البعض يا سيد بسيوني و لماذا ذكر هذا الأمر دون انتهاكات المعارضين، فأقول لهم، وثقوها و ارفعوها  للجنة و كذلك ارفعوها للقضاء و خذوا حقوقكم بالقانون. و لكن هذه اللجنة المستقلة قد شكلت لإنصاف من لم يجد الإنصاف و لمن لم يستطع أن ينتصف بالقانون، و لكل من يقول أن أخطاء ممنهجة أو غير ممنهجة قد انتهكت حقوقه.
لا أحد يحسد اللجنة و رئيسها و أعضاءها لأن الجميع ينتظر ما يرضيه، و حتى لو تمكنت اللجنة من أن تحقق شيئاً من الإنصاف فهي لن ترضي أحداً إلا إذا استطعنا تحويل ما تخرج به إلى معطيات تمكننا في المضي لبناء البلد من جديد عبر إصلاحات كبيرة و شاملة.

آخر الوحي:

أضحى التشاؤم في حديثك بالغريزة و السليقة
مثل الغراب نعى الديار فأسمع الدنيا نعيقه
تلك الحقيقة و المريض القلب تجرحه الحقيقة
أمل يلوح بريقه فاستهد يا هذا بريقه
ما ضاق عيشك لو سعيت له ولو لم تشك ضيقه
إبراهيم طوقان


** تم حذف الكثير من المقال الأصلي -و الذي نشر قبل ظهور تقرير اللجنة- قبل نشره و النسخة الكاملة موجودة في مدونتي الشخصية "رسالة في زجاجة" تحت هذا الرابط:

http://oceanbottle.blogspot.com/2011/11/blog-post.html


الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

حسب الظاهر






الأربعاء ٩ نوفمبر ٢٠١١


يروى أن قاضياً  كان جالساً في المحكمة و أحس بالعطش فهمس لحاجب المحكمة “حسب الظاهر أنا عطشان” و بطبيعة الحال فقد تعود الحاجب على تلقي أسماء الشهود من القاضي بهذه اللهجة الهادئة. و بحسب ما تعوده الحاجب قام منادياً للشاهد “حسب الظاهر أنا عطشان”، أخذ يكررها و القاضي يحاول تنبيهه بلا جدوى. رجع الحاجب بعد لحظات ليخبر القاضي ربما بعدم حضور الشاهد !!
أمور كثيرة بحسب الظاهر تختلف كلياً عما هي عليه حقيقةً، فمثلاً ما كل الأصدقاء أصدقاء و لا كل الأعداء أعداء. كيف ذلك؟ ألا يؤثر في الحديث أن “أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما. و ابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما”؟ أليست الآية تقول “إن من أزواجكم و أولادكم عدواً لكم فاحذروهم” ؟ أليس قد قيل قديماً “عدو عاقل خير من صديق جاهل”، ألم يكن قولٌ “إياك و مصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك”؟
 نعم، قد يكون ذلك غريباً، إلا أن بعض الأطراف التي لا تستطيع أن تتصادق علناً تضطر حتماً إلى توافقات و مهادنات و ربما صفقات على المدى البعيد من وراء الستار لتحقيق مصلحة الطرفين، و تكون التعاملات هذه مباشرة، أو عبر وسيط مقبول لدى الطرفين. قد ينظر إلى هذا الكلام على أنه ضرب من الرجم بالغيب أو الإتهام بلا دليل، إلا أن الأمثلة في التاريخ أكثر من أن تحصى، لذا سنستدل على موضوعنا ببعض الشواهد للوصول إلى نتيجة واضحة.
 ربما يصعب فهم ذلك، كما يصعب على أبناء جيلنا فهم أن حركات التطرف الإسلامي في أفغانستان كانت تلاقي الدعم الأمريكي في يوم من الأيام حتى تحولت للاعب قوي يمكنه مقارعة السوفييت و تحقيق المصلحة المشتركة مع أمريكا بتحرير أفغانستان. من يصدق ذلك اليوم و هو يرى أمريكا تحتل أفغانستان لمحاربة هذه الحركات المتشددة؟
 و قد يصعب على أبناء عصرنا تصور أن نظام صدام الدموي كان مدعوماً و مدفوعاً بالمصالح المشتركة مع الأمريكان ليشعل الحرب مع إيران لثمان سنوات و يأخذ دور شرطي المنطقة و حامي البوابة الشرقية، ثم يندفع للتوسع في دول المنطقة، فتحين مرحلة تحطيمه من جديد كما حانت قبلها مع حلفاء آخرين.
 و كما أن التاريخ وضح لنا هذه الصورة المعكوسة لموضوعنا، حين يرينا عداء شديداً يختفي وراء صداقةٍ حميمة. التاريخ كذلك يخفي في جنباته صداقات قريبة خلف عداوات ظاهرة. فهل يمكن لأحدنا اليوم أن يجزم أيهما استفاد أكثر من عداوته للآخر، هتلر أم بعض النخب اليهودية؟ حصل الأول على التفاف الأنصار حوله عبر صناعة عدوٌ بغيض، و حصلت نخب اليهود على التعاطف لإنشاء وطن قومي يلم شعثهم و يحمي ضعيفهم.
 ماذا ستكون ردود أفعالنا حين تخرج لنا الويكيليكس ببرقيات تدل على التعاون و التنسيق في الخطوط العريضة حول العلاقة بين أطراف كنا نفترض بينها التعادي و التشاحن؟ هكذا هي السياسة، تصدمك في كل وقت بما لا تتوقعه، و لنا في السيد جنبلاط مثال لا ينسى في مرونة التحرك بين الفرقاء بحسب ما تقتضيه المصلحة.
 ستكشف الأيام لكل ذي عينين أن لكل ظاهرٍ باطناً قد لا يوافقه، فإن كان اعتمادنا على الظاهر و حسب دون استقراء ولا تمعن، فلا شك أننا سنظل حيارى ضائعين، و سيظل القاضي ظمآناً.

آخر الوحي:

الأصدِقَاءُ...
الأصدِقَاءُ تَعَاهَدُوا
أنْ يبدأوا ميلاَدَهُم
بِذَهَابِي

شربُوا نبيذَ الحُبِّ
فوقَ موائِدِي
لم يشكُرُوا كأْسِي
ولا أعنَابِي
أحببْتُهُمْ فرحًا
أحَبُّوا دمعَتِي
فتركتُهُم يتناهَبُونَ
سَرَابِي

لاَ شأنَ لِي بالحُبِّ
ما شأنِي بِهِ؟
أنا خارج مِن جَنَّةِ الأحبابِ
أحمد بخيت

الأحد، 6 نوفمبر 2011

ماقبل ١٤ فبراير






الأحد ٦ نوفمبر ٢٠١١


متصفحاً عناوين صحف ما قبل 14 فبراير التي ربما لم يتسن لي قراءتها آنذاك بسبب تحضيري لإجراء طبي صادف أن يكون في صبيحة يوم ذكرى الميثاق. أذكر أنني عند دخولي لتلقي العلاج، ابتسم الطبيب في وجهي وسألني عن حظي العاثر أو اختياري السيئ لأن أقضي يوم الفالنتاين في المستشفى.
وربما أعدت تصفح العناوين لأنني أريد وأتمنى أن نخرج من دوامة ما بعد 14 فبراير 2011، ليس خروج الهاربين، وإنما لفك جزء من الهوس الذي شل عندنا كل مناحي التفكير في ما دون السياسة، وصرنا جميعاً نهلوس مع كل إشاعة ونعتصر مع كل بارقة أمل أو انفراج.
في صحيفة الوسط ليوم الأحد الموافق 13 فبراير، في صفحة المحليات تتوالى الكثير من العناوين التي سنمر ببعضها ونعلق عليها. أولها تصريح مجلس الوزراء أن مكرمة الألف دينار ستكون لكل الأسر بغض النظر عن مستوى الدخل أوتاريخ عقد الزواج. يلي ذلك خبران لأوامر ملكية جديدة لزيادة سقف الدعم لأصحاب الأجور المتدنية، وأوامر منذ 2007 بتخصيص وتنفيذ سواحل سواحل عامة إلا أنها لم تر النور بحسب تعبير الجريدة.
يلي ذلك خبر تشكيل رئيس هيئة الإعلام للجنة مشتركة لدعم تطوير الإعلام البحريني تضم فيها رؤساء تحرير الصحف المحلية والجهات المختصة وممثلين عن جمعية الصحفيين. وبينما يطالب النائب عبدعلي محمد حسن بلجنة تحقيق لإنصاف الجامعيين العاطلين، كان النائب مطر مطر ينبه إلى تصاعد نسبة الإنفاق على التسلح ووصولها إلى ثلاثين بالمائة من مجموع الدخل. في ذات الوقت كان النائب عبد الحميد المير يقترح توفير طبيب استشاري لجميع المراكز الصحية. وفي ذيل الصفحة نجد النائب عبد المجيد السبع يدعولخفض نسبة الأرباح على قروض الإسكان.
هذه كانت أخبار الثالث عشر من فبراير، وبغض النظر عما ستصل إليه السياسة من توافقات ومفارقات، فإن مجمل المذكور أعلاه هومشاكل معيشية وخطط مستقبلية وأجراس إنذار إقتصادية لا يجب أن ننساها ونقلب الصفحة ونرجئ الكلام عليها إلى ما بعد المعالجة السياسية للوضع في البحرين.
الحاصل أننا جميعاً نتكلم عن الحل السياسي وعلاج الأزمة وهذا شيء طبيعي، إلا ان غير الطبيعي أن ننصرف جميعاً عن حل مشاكل البلد جميعها حتى يصل الحل السياسي ويتم توافق عليه، فالحوارات لا تتوقف ولن تتوقف سواء علمنا بها أولم نعلم. فهل يجوز أن نعلق حياتنا كلها على يوم توافق لا ندري أمده؟ يجب ان نتعايش مع حقيقة أن بلادنا تمر في ازمة نتمنى أن تتجاوزها، إلا أنه لا يمكن أن نسمح بأن تشل البلاد ونمعن في تأزيمها بمواصلة التفكير من خلال 14 فبراير وحسب.
سؤالي لكل المسؤولين الذين ترتبت عليهم مسؤوليات بأوامر ملكية وتوجيهات حكومية ومطالبات نيابية، ماذا فعلتم بخصوص ما وجه لوزاراتكم سواء ما قبل الأزمة وما بعدها، بما في ذلك أوامر القيادة بإنهاء قضية المفصولين التي تشهد كثيراً من التلكؤ.
آخر الوحي:
بكلمةٍ واحدةٍ
لفظتها، ونحن عند الباب
فهمت كل شيء
فهمت من طريقة الوداع
ومن جمود الثغر والأهداب
فهمت أني لم أعد
أكثر من بطاقةٍ تترك تحت الباب
فهمت يا سيدتي
أنك قد فرغت من قراءة الكتاب
نزار قباني

الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

أجب أيها القلب








٢ نوفمبر ٢٠١١


في قصيدته الجميلة التي تحمل هذا العنوان، يشكو شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري من عتاب الناس له على قليل الكتابة، و كأن عين الشعر قد نضبت من جوفه بعد أن كانت هتانة منسابة، و يتبرم تبرماً موجعاً فيقول:
برمت بلوم اللائمين و قولهم***أأنت إلى تغريدة غير راجع؟
أأنت تركت الشعر غير محاولٍ؟***أم الشعر إذ حاولت غير مطاوع؟
ثم يسهب في السؤال حتى يصف حاله في نزق الشباب و الشعر يتفجر من جوانبه سهاماً تصيب المقاتل و سيوفاً تضرب في الحناجر فتسلمه من همٍ إلى تعبٍ ثم من سجنٍ إلى مرض، و يذكر ملامح حياته التي انتهى بها الحال إلى النضج و الإستسلام و مجاراة الحياة حيثما مضت به. و على أنه كان دوماً ذلك الفتى المتوثب المتبرم من واقع الأمة فقد نظم في الأربعينات رائعته “أمم تجد و نلعب” و قال فيها:
 و نعيش نحن كما يعيش على الضفاف الطحلبُ
متطفلين على الوجود نعوم فيه و نرسبُ
متذبذبين و شر ما قتل الطموح تذبذبُ
و شتان ما بين روحه المتوثبة في” أمم تجد” و بين أنفاسه الوادعة الحزينة في “أجب أيها القلب” التي يأسف فيها على توثب شبابه و نزقه و تهوره و يتمنى عودة شريكة معاناته للحياة لتقاسمه زمن الدعة كما قاسمته أيام الشقاء و المحنة في طموحه القاتل الذي رماه بين أحضان المهجر. ثم نجده يمعن في توبته من طموحه ذاك فيقول:
أناشدٌ أنت حتفاً صنع منتحرٍ ؟
أم شابكٌ أنت مغتراً يد القدرِ؟
خفض جناحيك لا تهزأ بعاصفةٍ
طوى لها النسر كشحيه فلم يطرِ
و لو ترك أبو فرات لأحدنا وكالة عنه ليجيب بدلاً من قلبه على أسئلة اللائمين، لأجابهم مما يراه من جمود المشهد في بلادنا. و لوصف كيف يراوح البلد في نفس المربع بين أعمدة الشتم و السباب في الجرائد من ناحية و بين التحريض الطائفي على مداخل الحارات و على أبواب المساجد و فوق المنابر التي يفترض بها أن تجمع لا أن تفرق. بين ملاحقات الليل الرتيبة و ما يبدأها من تزمير و ما ينهيها من طلقات التحذير و ما يتخلل ذلك من مشاهد يحفظها الجميع لا تنهيها كلمة حق ولا صوت حكمة.
و بينما يتهرب الكثيرون من مسموعي الكلمة من مسؤليتهم الإجتماعية، ينبري الكثير من أنصاف المثقفين لإشعال برنامج تقاذف الإتهامات و شخصنة الخلافات على أوجه للإستمتاع ببعض الظهور على حساب البلد. ثم، يا أبا فرات، فإنه ليس للإنسان أن يغضي عن ذلك كله و يحاول أن يكون ممن يواصل المسير و يحاول توجيه الضوء إلى مشاكل التنمية و عيوب الأداء المؤسساتي، لماذا؟ لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
و ضمن الأحداث الطارئة و ضمن العمل المؤسساتي الإعتيادي سواء للحكومة أو سائر المؤسسات الأهلية بما فيها الجمعيات السياسية، فإن قضايا الرأي العام لا تأخذ حقها ولا حتى نصيباً بسيطاً من الإهتمام يفترض بها أن تثيره و تستوقف الجميع عنده. هذه القضايا تشمل الأمن عند خمول ذكر بعض القضايا إن لم تقيد ضد مجهول رغم خطورتها و تشمل التجاوزات الإدارية التي يرصدها ديوان الرقابة نفسه و لا تحرك المؤسسات المختصة ساكناً لمتابعتها و تشمل قضايا الإحتيال المالي التي تهز اقتصاد الآلاف من المواطنين. ما لا تحركه هذه القضايا لا يحركه مقال هناك أو أجراس يقرعها عابر سبيل هنا.
لا تسألني يا أبا فرات عن حسابات الجدوى و النتيجة، فلقد أجبتك سلني بعد كل ما قلته عما لا يكتب خوفاً من أن يصطدم بقناعات الآخرين، أو خوفاً من أن لا يقتنع به أحد حتى محرري الجريدة أنفسهم، و سلني عن توقف الكلام المحدد و التحول للكلام العام العائم.
 إلا أنني يا أبا فرات – دون مزايدة عليك – أجد أنه لا بد من العودة للكلام عن القضايا اليومية و عن المشاكل الأزلية، و عن المفاهيم المحرفة و للرؤية النقدية للمجتمع. و سترى أنه لا بد من العودة لها و ذلك ما سيكون إن شاء الله. أما القضايا التي يلزم للحديث فيها أن تكون مدعوماً من أحد الفرقاء فهي ليست لنا، لماذا؟ لأن المتأدب رغم أنه لا يرضى لنفسه أن يكون رجعاً للصوت أو صدى للصراخ إلا أنه لا يجب أن يستسلم لواقعٍ لا يقبله و لو ببذل أقل الجهد و أضعف الإيمان.

آخر الوحي:
تحلَّبَ أقوامٌ ضُرُوعً المنافِع
ورحتُ بوسقٍ من “ أديبٍ “ و “ بارع “
وعَلَّلتُ أطفالي بَشرِّ تعلِّةٍ
خُلودِ أبيهم في بُطونِ المجامع
وراجعتُ أشعاري سِِجَّلاً فلم أجِدْ
بهِ غيرَ ما يُودي بِحِلْمِ المُراجِع
ومُسْتَنْكرٍ شَيْباً قُبيلَ أوانهِ
أقولُ له : هذا غبارُ الوقائع
طرحتُ عصا التِّرحالِ واعتَضتُ متْعباً
حياةَ المُجاري عن حياةِ المُقارِع

محمد مهدي الجواهري

الأحد، 30 أكتوبر 2011

مع الحجيج











٣٠ أكتوبر ٢٠١١


في موسم الحج تتجه أنظار العالم و عدسات التصوير و قلوب الموحدين صوب أطهر البقاع، نحو الحجاز بحرميه الشريفين، و مشاعره المقدسة. و بينما نشاهد خروج الحجيج من عرفات إلى المشعر الحرام في مزدلفة للمبيت ليلة العاشر من ذي الحجة، تتحرك في نفوسنا مشاعر مختلطة بمعان مختلفة.
فأول ما يخالجني و أنا أنظر لهذا المنظر كلمة يا ليتنا كنا معكم، إذ تتحرك الجموع الموحدة في مسيرة بيضاء لا متناهية و موجة عارمة دائبة الحركة، و في جوانب الصورة الجوية صور لرهبان و نساك في ثياب ناصعة على أطراف الجبال، كل منهم يرفع يديه بالدعاء لرب العزة و الجلال. و أخال الملايين التي تسعى في هذه الثياب الناصعة مجللة و مظللة بملايين أخرى من موحدي السماء، ملائكة تدعو لهم و تستغفر لذنوبهم و تسبح معهم، سبوح قدوس رب الملائكة و الروح.
منظر تلك المسيرة حين تقترب العدسة، يريك بعض مشاهد محشر القيامة، ترى الملايين و قد صارت جماعات أصغر، تتقدم كل مجموعة رايات ملونة منها الأخضر و الأحمر و شتى الألوان، بحيث لا تتفرق المجموعة أو يضل منها أحد، في صورة رغم توحدها في المسير يبقى كل فرد فيها يعرف طريقه و يعرف عشيرته. حين أعود بالذاكرة لنفس المشهد حين عايشته في دخول منى يوم العاشر، كانت الرايات تتفاوت بين الأعلام القماشية و قناني الماء كبيرة و صغيرة و قد علقت على العصي.
 هذه الرحلة الإيمانية التي تهفو لمنظرها قلوب من لم يجربوها، و تعتصر أفئدة من سبق لهم القيام بها، تشتاق لها قلوب حتى من ليس على دين التوحيد لما تحمله من معان سامية و تجربة روحية لا مثيل لها على وجه الأرض. حدثني مرة زميل هندي أعرف صدقه، أن من أصدقائه هندوسياً غير ديانته في أوراقه الثبوتية إلى الإسلام ليتسنى له دخول البقاع المقدسة و المشاركة في هذه الرحلة.
 مازالت ذكريات الحج تداعب نفسي رغم بعد العهد نسبياً، فالبحرينيون من الشعوب التي ربما لقلة عدد سكانها تتميز بأن أكثر من نصف حجاجها كل عام هم حجاج سنويون، يذهبون للحج كل عام أو عامين. هذه الذكريات التي تنتقل في عدة مشاهد و بقاع، بين الطواف و السعي و عرفات و منى و مزدلفة، ثم زيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة المنورة.
 في الروضة الشريفة وقفت بعد أداء الصلاة و أنا أستشعر عظمة صاحب البيت و المنبر فهمست “ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله” كان جاري المصري قد أنهى صلاته، و قد أحس أنه يحتاج أن يعلمني ربما لفارق السن بيننا فقال ملقناً إياي، و أنا أردد معه “أشهد أنك بلغت الرسالة، و أديت الأمانة، و نصحت الأمة، و كشفت الغمة، فجزاك الله عنا و عن المسلمين خيرا”. إحساس رهيب بالضآلة أمام عظمة سيد الخلق و هادي العباد خالجني و أنا أرى أهل كل عرق و قطر و لون و لسان، يسلمون على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و أحس أنهم – وأنا ضمنهم- لا يعرفون ما ينبغي له من القدر مع كل احترامهم له.
 و لا  أدري لماذا أحس أن المصريين من جميع شعوب الأرض استثناء في عشقهم له و تعظيم لقدره صلى الله عليه و آله و سلم. حالة متفردة من العشق و التبجيل و الذوبان بمجرد ذكر الإسم الشريف، و هو حقيق بذلك و أكثر. أذكر مرة أن مصرياً أخطأ أو نسي فقال جبلةً على فطرته “ما كامل إلا محمد” فصحت به أن الكامل هو الله لا غيره. ثم ندمت على كلامي أشد الندم، فالرجل كان و لا شك يقصد الكامل من المخلوقين و لم يكن يفترض أن يحضرني معنى آخر لولا ما ابتلينا به من وسواس خوف الوقوع في الشرك، مرض الوسواس الذي أصبنا به كمسلمين وصرنا بسببه نقع في بعض مصاديق سوء الظن الذي ربما كان آثماً.
 يبقى الحج من أكبر مصاديق التسليم لرب العزة و الإمتثال لأوامره و نواهيه، فما بين رهبنة الإحرام و ترك المخيط و الطيب و النساء، و بين هجر الجدال و الخصام و كراهة إنشاد الشعر، و حرمة الصيد، و بين شعائر طواف و سعي و رمي و انتقال و وقوف و مبيت و نحر. لكل هذه الأعمال معانٍ سامية، إلا أن أهم معانيها التسليم و الإمتثال لرب العزة و الجلال.
 أعادنا الله و إياكم على مثل هذه الأيام و نحن مع الحجيج بأبداننا كما نحن معهم اليوم بأرواحنا التي تهفو لتلك البقاع الطاهرة.

آخر الوحي:

أمر على الديار ديار ليلى          أقبل ذا الجدار و ذا الجدارا
و ما حب الديار شغفن قلبي             و لكن حب من سكن الديارا

قيس بن الملوح

الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

شولم شولم






الأربعاء ٢٦ أكتوبر ٢٠١١




 يبدو أنني مددت ذراعي في غار الثعابين حين مددتها إلى كتاب كليلة و دمنة بعد أن هجرته سنين عديدة. أقول ذلك لأن هذا الكتاب الذي نتداوله صغاراً كمصدر لقصص الحيوانات، هو كما قال عنه واضعه الهندي بيدبا الفيلسوف أن ظاهره لهوًٌ للعامة و باطنه سياسة للخاصة.
 إلا أنني كما زينت أواخر بعض المقالات بمثيلات ذلك من قصص الحيوان بشعر أحمد شوقي، فقد قررت أن أبحر قدماً مع أقاصيص بيدبا الفيلسوف في كتابه الثمين لمليكه دبشليم. وقد اتفق أن يكون في الكتاب باب أضافته الفرس إلى الكتاب عند ترجمته يسمى باب برزويه المتطبب. هذا الباب وحده درة ثمينة و جوهرة نفيسة فيها من كنوز الحكمة ما يغني من اطلع عليها عن الكثير من موارد الحكمة لما فيها من التسلسل في مراجعة القناعات و محاسبة الذات.
 يقول الباب على لسان برزويه “ فلما لم أجد إلى متابعة أحد منهم – أي الناس- سبيلاً، و عرفت أني إن صدقت أحداً لا علم لي بحاله كنت في ذلك كالمصدق المخدوع الذي زعموا فيه”. ماذا زعموا فيه؟ يروى أن سارقاً في جماعة من أصحابه قد علا سطح بيت رجل من الأغنياء، فاستيقظ الغني على صوت خطواتهم و أيقظ امرأته و أعلمها بما شعره. ثم قال لها: أيقظيني بصوت مرتفع ثم اسأليني عن أموالي الكثيرة و كنوزي العظيمة من أين جمعتها و ألحي علي في السؤال إن امتنعت عن جوابك ثم استحلفيني حتى أجيبك إلى ما تسألين. فلما فعلت، سمع اللصوص سؤالها و مدوا آذانهم يطلبون الجواب معها. فقال الغني لامرأته و لمن يسمع: إني ما جمعت هذا المال إلا من السرقة بعلم أصبته ييسر أموري و يستر فعلي. كنت أعلو أسطح المنازل حتى أصل إلى الفتحة التي يدخل منها الضوء للمنزل فأرقي نفسي بقولي “شولم شولم” ثم أمسك بحبال الضوء و أنزل إلى قعر المنزل بسلام و لا يبقى شئ ثمين في المنزل إلا أتاني من نفسه ببركة هذه الرقية فآخذ كل المال و المتاع و أتعلق بحبل الضوء و أخرج مرة أخرى سالماً غانماً. و كل من كان له الجرأة في ذلك من التعلق بالضوء يمكنه فعل ما أفعل. فلما سمع اللصوص ذلك انتظروا سكون صوت الغني و امرأته، فقام كبيرهم و رقى نفسه “شولم شولم” و اعتنق الضوء فوقع على الأرض على رأسه. فوثب عليه الغني بهراوته يضربه و يقول له من أنت؟ فقال :”أنا المصدق المخدوع  المغتر بما لا يكون أبداً، و هذه ثمرة رقيتك، و عاقبة من يصدق كل ما يسمع”. يقول برزويه “فلما تحرزت من تصديق مالا يكون، و لم آمن إن صدقته أن يوقعني في تهلكةٍ، عدت إلى البحث عن الأديان، و التماس العدل منها”.
أقول أن من شأن صاحب كل دعوة أن يجمع الناس من حوله بالترغيب ما أمكن ثم بالترهيب إن تمكن، و لو كان الناس من أصحاب العقول لا تعميهم المطامع فيتدبرون في ما يعطى لهم من الوعود لتزيين الدروب الشائكة، لما كان لأحد أن يخدعهم ثم يندموا حين لا يفيد الندم. إلا أن الإنسان و إن درس من الحكمة الشيء الكثير لم يكن له ليتعلم إلا مما يشاهد بأم عينيه مما يجري عليه أو على غيره من أهل زمانه. و لذا كان من الخير له أن يستغني بالعبرة التي يراها من تجربة غيره عن إيقاع نفسه في المهالك و موارد الخطر.
الناس يقعون تحت تأثير محتالي الإستثمار الوهمي فيضيعون أموالهم و مدخراتهم بالثقة و التصديق لما لا يكون أبداً، فيغنمها المحتال وحده. و الناس يقعون تحت تأثير السياسي الذي يجمعهم حوله و يريهم أن الجانب الآخر من السياج أكثر اخضراراً إذا هم مشوا معه و ساروا في ركابه. و الناس يسحرون بالخطيب ذي التوجيهات التي توصلهم لمراتب الملائكة دون جهد يذكر. و الناس يسحرون بالكاتب الذي يلمعهم بما يخط من مديح لهم و لتوجهاتهم، سواء كانوا معارضين أو موالين. أما من يصدق معهم و لا يمارس عليهم التنويم المغناطيسي، و يريهم أن الثروة تجئ من جهد و عمل، أو يقول لهم أنهم بشرٌ لهم أخطاؤهم، ذلك يصير شيطاناً يريد أن يحبطك، ذلك حسود يريد أن يسوءك، ذلك هو من يجب أن تجتنب تثبيطه لتصل إلى ما تتمنى.
إن من أراد الوصول لشئ عمل بأسبابه و نظر إلى ظروف إمكانه، سواء كان ذلك الهدف نبيلاً أو غير نبيل، هذه هي الواقعية، التي يسميها البعض انبطاحية و تخاذلاً، فالواقع له حساباته المختلفة عن الأحلام الوردية من أمثال الإستئصال و الإستئثار أو الإنفراد، إلا أن كل حزب يزين لأتباعه الطريق بالوعود و يجمل جانبيه بالأزهار و الورود أو يصفهم بالمردة و الأبطال و الأسود.
 آخر الوحي:
لا تكوني عصبيه!! لن تثيريني بتلك الكلمات البربرية
 ناقشيني بهدوءٍ وروية
 من بنا كان غبياً؟
 يا غبية..
 إنزعي عنك الثياب المسرحية..
 وأجيبي.. من بنا كان الجبانا؟.
من هو المسؤول عن موت هوانا؟.
 من بنا قد باع للثاني.. القصور الورقية؟
 من هو القاتل فينا والضحيه؟. من ترى أصبح منا بهلوانا..؟
 بين يوم وعشية؟
 نزار قباني

الأحد، 23 أكتوبر 2011

الواد سيد الرئيس





الأحد ٢٣ أكتوبر ٢٠١١


الزعيم عادل إمام ترك تراثاً كوميدياً لا يسمح للمشاهد العربي بنسيان قفشاته ولا المثقف العربي بتجاهل رمزياته. يفتح لك إغراء بتبني مواقف أفلامه و مسرحياته الحاضرة دوماً في ذهن كل عربي ربما. الزعيم على ما يبدو عشق فكرة المحلل و التي طرحها في فيلمه زوج تحت الطلب و مسرحية الواد سيد الشغال. ففي العملين كانت نوافذ المال تفتح لذلك الرجل البسيط بشرط أن يعقد قرانه ثم يطلق عاجلاً. طبعاً الفكرة مبنية على أن أي زوج يطلق زوجته ثلاثاً لا يحل له الإقتران بها مجدداً حتى تتزوج بآخر ثم يطلقها ذلك الآخر.
 الآخر طبعاً درجت تسميته بالمحلل أو كما سمته مسرحية الواد سيد الشغال “كوبري”، و هذا الكوبري هو الذي سيكون طريقاً لعودة الزوجين لبعضهما البعض.
 ربما هكذا نظر الرئيس الروسي السابق و رئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين إلى الرئيس الحالي ديميتري ميدفيدف. فالرئيس بوتين كان قد حكم روسيا لدورتين متتاليتين، استطاع خلالهما تحقيق العديد من المنجزات لبلاده و من ضمنها تحسين البنية التحتية و رفع المستوى المعيشي و تخفيض نسبة التضخم بشكل ملحوظ جداً. و بعد الدورتين، كان الدستور الروسي يحظر على بوتين أن يعاود ترشيح نفسه إلا بعد أن تنال روسيا رئيساً آخر لدورة واحدة على الأقل. هنا قام بوتين بالدفع بديميتري ميدفيدف للإنتخابات. و يبدو أن تزكية الرجل لميدفيف كانت كفيلة لوصوله لسدة الحكم بنسبة عالية من الأصوات.
 كان أول مرسوم أصدره ميدفيدف بعد دخول قصر الكريملين تعيين بوتين رئيساً للوزراء. و يبدو أن السياسة الروسية لم تتغير كثيراً بين عهدين، و ظل بوتين في مركز دائرة صنع القرار رغم كونه رئيساً للوزراء فحسب، إلا أنه كان الرئيس الفعلي من وراء الستار.
 منذ أيام و قد شارفت فترة ميدفيدف على الإنتهاء، لاحت في الأفق التصريحات من الحزب الحاكم و الأنباء بأن بوتين ينوي الترشح للإنتخابات المقبلة، و أن ميدفيدف سيظل في نفس الدائرة و يرجح أن يصير رئيساً للحكومة في العهد القادم.
 هنا في الحالة القائمة في روسيا، يبدو أن الدستور الذي يحظرالبقاء في الحكم لأكثر من دورتين لم يستطع إلا أن يحافظ على شكليات أمكن تجاوزها بواسطة الرجل القوي الذي ظل يحكم روسيا و إن كان ذلك بإرادة الناخبين. هذه الحالة تمثل تراجعاً في التعددية و الديموقراطية في بلاد يفترض أنها صارت تؤمن بها، و خصوصاً في عهد ما سمي بزمن الشعوب. ما أريد قوله هو أن النصوص وحدها لا تستطيع أن تغني شيئاً عن الناس أو حتى عن نفسها. لا يوجد نص غير قابل للتأويل أو التحايل أو التغيير، و العبرة دائماً بوجود إرادة الإصلاح و الثقة المتبادلة و رسوخ القناعات عند الأمم و عدم السماح بالإستثناءات. فقد سلمت روسيا زمامها إلى رئيس بسبب تزكية زعيمها المحبوب له، و ظنها أنه لن يخذلها، و ربما تسمح لذلك الزعيم بالوصول إلى رقم قياسي في سنوات الحكم بسبب ثقتها فيه ليس إلا.
و قد تكون هذه الحالة و إن كانت مرضية من الشعب الروسي مبدئياً إلا أنها سوف تؤسس لحالة من الإستثناء و الإستحواذ الذي قد يتم استغلاله مستقبلاً فتدخل هذه البلاد في القبضة الحديدية من جديد و لو بإسم غير إسم الشيوعية.
 أما في الوطن العربي، فهذه الفرضية غير مطروحة من الأساس، إذ أن الرؤساء لا يحتاجون أن يغادروا ثم يطلبوا العودة بقول أنهم عائدون بدعوى المحافظة على مصلحة البلاد كما قال بوتين. الرئيس لا يحتاج أن يغادر أصلاً لا بالنص ولا الواقع. و النماذج من أمثال القذافي الذين وصلوا للحكم بثورة ظلوا قابعين في مراكزهم حتى اقتلعتهم التحالفات الدولية بإسم الثورة على طريقة قدومهم للكرسي هي كثيرة على العد و الحصر.
 كذلك رؤساء أحزاب المعارضة، لا يملون من رئاسة الحزب، و لن يصعب على أي منهم أن يفعل أي شيء للمحافظة على مركزه في الحزب، و استبدادهم بآرائهم مدعاة لعدم تصديق حرف مما يقولون. لأن من كان مستبداً و هو مازال خارج السلطة، فإنه جزار بعد دخوله للسلطة.

الراغبون في السلطة لن تعجزهم الحيل في أي مكان للإستبداد بآرائهم على تابعيهم و الوصول إلى مبتغاهم على حساب المبادئ المتفق أو المجمع عليها، لذلك لا أثق بكلام السياسيين و وعودهم أياً كانوا بل أثق بأفعالهم، فالفرق بين الحق و الباطل أربع أصابع و هي المسافة بين مسمعي و ناظري.

آخر الوحي:

لا تذكروهم لي ، و إن سألوا
لا تذكروني عندهم أبدا
لا يملأ السربال واحدهم
و له وعود تملأ البلدا
يا ليتني ضيّعت معرفتي
من قبل أعرف منهم أحدا

إيليا أبو ماضي

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

كن جميلاً







الأربعاء ١٩ أكتوبر ٢٠١١


 في أيام مضت و في أول ما نشر لي قارنت بين دور الصحفي و دور الأديب، و أوضحت كيف أن دور الصحفي يكمن في وضع الأصابع على مكامن الخلل و تسليط الضوء عليها سعياً لانصراف الجهود نحو معالجتها. و شكوت أن نسبة الاستجابة لصحافتنا متدنية، و أن الآذان ليست صاغية و أن الصحافة صحافة بريد قراء.
 إلا أن هذا لم يكن أبداً سبباً في انصرافي عن أداء هذا الدور ولا داعياً لتحولي للجانب الآخر من المعادلة و محاولة تقمص دور الأديب. فكان اتجاهي حينها نحو الحفر في ذلك اليابس و محاولة أداء المهمة و إن كانت النغمة مكرورة لدرجة أنك مهما قلت لا تقول جديداً و لا تصدم قارئاً ولا تحرك ساكناً.
 لكنني اليوم أرى أن دور الأديب أهم، لصناعة الأمل و جمع القلوب و تهدئة النفوس. و هنا لا أعني إيقاع الجمهور أو القراء تحت تأثير المخدر. فأنا لا أدعو أحداً أن يقول أنه ليست هناك مشكلة إسكانية فاغرة فاها على مصراعيه، و لا أقول أنه لا توجد لدينا مشكلة في تنوع مصادر دخل الدولة. و أنا لا أنكر أن بنيتنا التحتية ينقصها الكثير. و لا أدعي أننا حققنا اكتفاء  ذاتياً أو أمنا غذائياً. لو دعوت لمثل هذه الأقوال أو لمعتها فسأكون حتماً تحت تأثير المخدر، إلا أنني أشير إلى جانب آخر.
 ما أشير إليه هو أننا نحتاج من الكتاب لمن يشيع المودة بين الناس، لا من يؤكد على حقهم في التقاطع و التدابر ثم يدعي أنه يريد خير البلد. لا من ينادي بالدعوات المكارثية للإستئصال، ثم يخطب باسم أمن البلد، ولا من يغمض عينيه و يصم أذنيه عن الإقتصاد المنهك، ثم يدافع عن الأخطاء باسم حق التعبير عن الرأي.
 الأديب الذي نحتاجه هو من سيحاول أن يغير الصورة القاتمة و اليائسة التي صارت حاضرة حتى عند الواقعيين و المتفائلين و المتشائمين على حد سواء. إنه قادر على تركيز عدسته على نقاط القوة التي يمكن لأهل هذا البلد أن يبنوا عليها و يواصلوا مسيرتهم، و يبتعد بهذه العدسة عما يفرقهم، يجمعهم على الثمانين بالمائة المتفق عليها، حتى يحين الخروج من هذا النفق، لأنه لا يمكننا التفكير ما دمنا فيه.
 ربما كان ما دفعني دفعاً لهذا التفكير أنني رأيت أكثر من شخص ممن يغلب عليهم التفاؤل و العمل الجاد الدؤوب لخدمة مجتمعهم رغم الظروف الحالكة، رأيتهم و قد شارفوا على أن يفقدوا أجمل ما فيهم و هو الثقة بالله و التوكل على الله. حين ترى معتدلاً و قد صار أو كاد يصير معتزلاً، فاعلم أننا كلنا نحتاج إلى راحة نفسية طويلة و نظرة متفائلة لنتمكن من مواصلة المسير.
 صديق خليجي قال لي ذات مرة أنه لا يفرق بين الناس على أساس أعراقهم أو مذاهبهم، قلت له تأكد أنه لا يفرق بين الناس إلا من يتعيش على الفرقة ولا تظهر له قيمة إلا بفساد ذات البين و هنا يصدق المثل أو قول الشاعر “يرفع الله حظوظاً بعدما كانت زبالة”.
 آخر الوحي:
قال السماء كئيبة ! وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما 
قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتــسم
 لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
قال: التي كانت سمائي في الهوى
 صارت لنفسي في الغرام جــهنما
خانت عــــهودي بعدما ملكـتها
قلبي , فكيف أطيق أن أتبســما
قلـــت: ابتسم و اطرب فلو قارنتها
 لقضيت عــــمرك كــله متألما
 إيليا أبوماضي

الأحد، 16 أكتوبر 2011

ياخيل الله







١٦ أكتوبر ٢٠١١


في غرفة الإجتماعات، جلس مجموعة من الإخوة يناقشون قضية هامة من قضايا الفكر التي تمس المجتمع بصورة دقيقة لا تحتمل التجاهل، كنوز من الفكر و جواهر من المعرفة و درر من الحجة و المنطق كانت تتناثر بين الحاضرين. علامات البشر و التهلل تنعكس على وجوه المستمعين، طمأنينة تسري في الأنفس و الأبدان، أنفاس من الإرتياح المختلط بالتركيز المعجب.
خرج الجميع من هذه الندوة أو ذلك الإجتماع أو لعلها تلك الإحتفالية، و قد تذاكروا بينهم من العلم ما أحسوا بعظم قيمته في تعزيز ثقتهم و قتل شكوكهم و إبعاد وساوسهم. إلا أن من كان خارج الإحتفالية فاته ما ذكر فيها و ما نوقش من مسائلها و ما تشعب في جدالاتها و تساؤلاتها.
 من كان خارج هذه الندوة؟ كل العالم كان خارج هذه الندوة، كل من قد يهمه الأمر لم يدرك من الأمر شيئاً لسبب بسيط، أن محتوى الندوة كان مشافهة لا مكاتبة، وكم يتفاوت الإثنان في الرسوخ و الإستقرار و التوزيع و الإنتشار و ربما في الدقة و الإحكام.
 ليس قدحاً فيما يقال مشافهة فالتواصل وجهاً لوجه بين المحاضر و المستمع له الأثر البالغ في نفسيهما رغم كونه أمراً فوتياً لمن تخلف عنه، إلا أن حصول المشافهة  لا يمنع أن تلحقها الكتابة  لتثبت أركانها فينتشر ذلك العلم بين بقاع الأرض و أصقاعها و يصير مادة متداولة في أوراق الصحف و نتائج الجوجل و تغريدات التويتر.
 فالفكر هو الساحة التي لا ترهب فيها قلة من كثرة، و لا يخشى فرد من مجابهة العشرات و المئات بل و الآلاف، و لعل من ذلك ما ورد في الحديث من أن مداد العلماء خير من دماء الشهداء. فلم نفرط في معركة الفكر و لم نحصرها في الغرف المغلقة فتغيب عمن يريد أن يشهدها و يرى تصارع الآراء ليرى أيها أقوى من غير بهرجة ولا دجل و لا عد ولا عاطفة آسرة أو قوة قاهرة.
 هذا ما يعيب كثرة من مثقفينا و متعلمينا و مفكرينا المبرزين، و هو اعتزالهم زهداً في حب الظهور. و رغبة عن التعرض للجمهور، و إن كنت لا أرى في ظهورهم إلا إيجاد حراك فكري يسهم في غربلة ما ينتشر بين الشباب و الناشئة و عموم المجتمع من أفكار ليست كلها بناءة. هذا الحراك بدوره يدفع عجلة النهضة المجتمعية نحو مستقبل أفضل غير معتمد على أحلام الحالمين دون نبؤات المستشرفين و تصورات الخبراء و المفكرين.
 ما يمنع كل صاحب رأيٍ إن على مستوى نقد الذات أو نقد الآخر أن يسطر حروف رأيه على الصفحات و الشاشات، لينال هذا الرأي حقه من المناقشة و التمحيص أو حتى من التسفيه الذي قلما غادر فكرة عظيمة في بدايات ظهورها و انتشارها.
 إنما هي مجالدة فكر بفكر و صراع رأي برأي، فأيهما كان أكثر وجاهة سيتقبله العقل لا محالة إن عاجلاً أو آجلاً. ولا شك أن بين النية و العمل مسافة ينبغي قطعها و لو بأدنى الممكن.

آخر الوحي:
فاستلهِموهُ فخيرُ من رَسَمَ الطريقَ مُجرِّب
لا تجمُدوا إنّ الطبيعة حُرَّةٌ تتقلَّب َ
كونوا كرقراقٍ بِمَدرجةِ  الحَصى يتسَرَّب
تأتي الصخورُ طريقَه فيجوزُهنَّ ويَذهب
وخُذوا وُجوهَ السانحاتِ منَ الظروفِ فقلِّبوا
فاذا استوَتْ فتَقحََّّموا
وإذا التوَتْ فتَنكبَّوا 
 وإذا وجدتُم جذوةً  فضعوا الفتيلَ وألهِبوا
محمد مهدي الجواهري

الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

كلام في المفهوم









الأربعاء ١٢ أكتوبر ٢٠١١


ربما كان سبب تسمية هذا العمود الأسبوعي باسم “كلام مفهوم” عائداً إلى شدة ما نعانيه بسبب الكلام غير المفهوم. فالخطيب عندنا يبحر في معاني عالم المثال حين يعظ الناس، وهم يهزون رؤوسهم محاولين التحليق معه. ثم يذكر أحكاماً شرعية لا في صورة المسألة الشرعية أو الحديث النبوي، وإنما في صورة كائن هلامي قابل للتغير والتشكل، لا تعرف حدود هذا الكائن ولا ماهيته وقد يتضخم أو يضمحل أو يصير على شكل آخر. رجل السياسة بطبيعة الحال يغرق في المواقف نصف المكتملة مثل قفزة الغطاس من فوق الصخرة، نصفها فوق سطح الماء ونصفها الآخر تحت الأعماق غائب عن الأنظار. فلا يعيي السياسي نفسه بشرح مواقفه وإنما يترك فسحة تسمح له بالاستدارة وتغيير الاتجاه. أدباء الحداثة يقذفون بك في اللجة نفسها حين يرسمون خيول الماء وبوح ظل الإعياء ورقص الحلزونة ويحشرون معنى تخندق الماء والنار في بركان القطب الشمالي.
مع هذا الكم الهائل من الكلام غير المفهوم، يشعر المستمع كلما أكثر الاستماع بتمدد أذنيه إلى الأعلى، بالضبط كتمدد أنف بينوكيو للأمام حين يبدأ بالكذب، وتشنج عضلات رقبته، فلا يستطيع رفعها لينظر للسماء، إنها أعراض داء “حب الاستحمار” الذي يسيطر على الجمهور حين ينبهر بقدرة الخطيب والسياسي والأديب والكاتب بخلق جمل غير مفيدة وعبارات غير مفهومة، والذي قد يتطور للإدمان فيما بعد.
إلا أن هذه التسمية جمعت في جوانبها أكثر من هذا حين فتحت المجال لنقاش الإشكالات الكلامية والفلسفية، ثم فتحت الباب الأهم في نظري حين سمحت بتوضيح المفاهيم التي تراكم عليها الغبار أو أصابها التدليس أو ضيعها سوء الفهم المركب. ولنتذكر أن المدخل إلى أي فتنة يكون عبر تلبيس مفهوم واحد أو أكثر.
ولعل أجلى وأوضح صورة في ذهني لعملية تنقيح المفاهيم وتوضيحها قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين علي عليه السلام “أنا أقاتلُهم على تنزيل القرآن وأنتَ تقاتلهم على تأويله”. في هذا الحديث نبوءة واستشراف وحكمة ككل الأحاديث النبوية، نقتبس منه أن المفاهيم إذا استحسن ظاهرها وصارت تسالم على استخدامها والإيمان بها، فإن كل طرف يقوم بتأويلها كما يرى أو يريد، لذا لزم توضيحها درءاً للخلاف والفتنة ووصولاً إلى مقاصد النص الذي يحتوي على هذه المفاهيم.
كمثال على ذلك نذكر استغلال مفهوم “ثورة الحسين” الذي حول جريمة اغتيال سبط نبي الأمة عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام إلى سعي للحكم يشرف كل ثائر باقتدائه. على أن أمثلة الثورات الساعية للحكم في التاريخ الإسلامي غير قليلة، وكان بالإمكان استلهامها وجعلها أيقونة، إلا أنها لن توفر غطاء شرعياً واستدلالاً فقهياً إن ثبت معنى الثورة.
الثورة معنى موجود في التاريخ من قديم الزمان، إلا أن طبيعة المجتمع الإسلامي تفرض الأسلمة على أي معنى مستورد، كما يتم أسلمة الديمقراطية تحت عنوان الشورى. فالشورى عنوان إسلامي لتعددية الخبرات في حل المشكلات، ولكنها بالتأكيد لا تفتح مجالاً لاجتهاد مقابل النص كما تفعل الديمقراطية التي تجعل كل النص قابلاً للإيجاد أو الحذف بإرادة المتشاورين.
العمليات الانتحارية هي مفهوم آخر تم أسلمته إلى العمليات الاستشهادية، فصارت ثقافة لبس الحزام الناسف سائدة، وتم التنظير لها وفرش جوانب طريقها بالحور العين وبجنان الخلد وبالغداء مع الرسول حتى لو كان ضحايا هذه الأعمال من المسلمين، فضلاً عن غير المسلمين. ولاشك أن هذه الأعمال مبنية على مفهوم مغلوط يحصر المسلم ذي الدم الحرام في أفراد التنظيم أنفسهم وبتجاهل لمفهوم “أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
وكما يساء استخدام المفاهيم أعلاه يتم الإساءة لمعنى الوطن والوطنية والوطنيين. فالوطن ليس أرضاً وحسب ولا شعباً فحسب وليس نخبة أو طائفة أو مجموعة، الوطن يشمل ذلك كله ويشمل معه تاريخاً وحضارة وقيماً تشكل مع الأرض والناس ما يطلق عليه الوطن. وعلى ذلك، فالوطنية ليست انتماءً لحركة سياسية شعبية معينة وليست مواقف مسبقة تجاه الأشخاص في الداخل والخارج ولا نفاقاً بكثرة الإنفاق أو شقاقاً بكثرة الاختلاف، الوطنية هي الانتماء لهذا المجموع كجزء من مكوناته والسعي إلى ما فيه خيره وازدهاره ونماؤه. الوطنيون لا تصلح بديلاً لكلمة “اليساريون”، فالكل يدعي الوطنية وليست حكراً على أحد ولا دثاراً لإزالة الاستيحاش من تناقض التحالف مع عدو الأمس “الإسلاميون والشيوعيون”. والوطنيون ليسوا أحد اثنين من موالاة أو معارضة. وخطورة هذه المفاهيم تنبع من نقائضها البشعة كلفظ “الخونة”.
لماذا نحتاج وضوح المفاهيم؟ لتوضيح المقاصد، ليكون للناس بينة فيما يقولون ويفعلون؛ لمعرفة الصواب من الخطأ، لإزالة اللبس المقصود وغير المقصود، ولكي لا تدخل علينا العلمانية أو الشيوعية أو حتى المافيا الإيطالية ملتحية تحمل معها سبحة ونحن نحسبها ليلى، فإذا بها الذئب. لكي لا نفاجأ بالتحول الذي وقع علينا، كما قال ذلك الشيخ المسن في مسرحية سيف العرب “أنام كويتيا وأصحو عراقيا؟!”.
آخر الوحي:

كأن الدِّين حانوت
فتحناه لكي نشبع ...
تمتعنا “بما أيماننا ملكت”
وعشنا من غرائزنا بمستنقع
وزورنا كلام الله بالشكل الذي ينفع
ولم نخجل بما نصنع
عبثنا في قداسته
نسينا نبل غايته ..
ولم نذكر سوى المضجع
ولم نأخذ
سوى زوجاتنا الأربع ...

نزار قباني

الأحد، 9 أكتوبر 2011

إن أكثرهم








الأحد ٩ أكتوبر ٢٠١١


عجيب هو انتكاس العقل البشري مع انقلاب القلب. فالأخير الذي ربما سمي قلباً لتقلبه يكون الباعث للهوى، الهوى الذي حين يتبعه الإنسان يصير أعمى و أصم. و لعل من ذلك التقلب ما ورد في الدعاء (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك). العقل إذن لا ينتكس دون مسبب قلبي أو لوثة تصيب العقل نفسه، لكن قديماً قيل حب الشئ يعمي و يصم.
هذا الأمر لا يسلم منه عالم أو جاهل، بل ربما لا يسلم منه أحد إلا من عصمه الله فلا ينطق عن الهوى. تلك حقيقة جلية للجميع، إلا أن التقديس للمحبوب يلغي أي مثلبة و يحولها إلى منقبة، ألم يقل الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
و مما لا يكاد يخفى على مسلم قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام “لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه”. علي يحذر من استيحاش طريق الحق، إذن طريق الحق موحش، لا تكاد تجد أحداً عليه، و هنا بيت القصيد.
فقد دأب الناس على ترهيب مخالفيهم في الرأي بمقولة “أترى الناس كلهم على خطأ و أنت على صواب؟”، أقول و ما العيب في ذلك؟ صحيح أن الناس إذا شاءوا أن يعملوا عملاً كان أقربه لرضاهم ما توافقت عليه آراؤهم، و لكن هل الحق أو الحقيقة يعرف بالقلة أو الكثرة؟  شتان ما بين توحيد الكلمة و الرأي على كلمة سواء يذعن لها الجميع و التي قد تكون في الأساس مما أذعن به القلة ابتداء و بين ما اتجهت إليه أهواء الغالبية من الناس.
 بل أكثر من هذا قولة علي من  أن الحق لا يعرف بالرجال بل هم يعرفون بالحق فضلاً عن مسألة الكثرة التي ذمها القرآن في الكثير من مواضعه بقوله تعالى “إن أكثرهم”. فمن هذا و ذاك فإن الأدعى و الأقرب للصواب هو خلاف ما أحبه عموم الناس.
 من من المصلحين بل و الأنبياء من لم يكن و أتباعه قلة مستضعفة في أمته؟ و من منهم كان طريقه وفق أهواء الناس فأحبوه؟ لقد أنزل الله على بني إسرائيل المن و السلوى من طعام الجنة فقالوا لن نصبر على طعام واحد، فكيف لو ابتلاهم بخبز الشعير أو المداومة على أكل القديد.
 جانب الألوهية الموجود في كل نفس بشرية يدفعها بدوافع الكبر و العلو، و جانب العاطفة يرفدها بالميل لكل محبوب و جانب الإستيحاش يرغمها على الإنصهار في الجماعة و الخوف من ترك أي موروث. و جانب الحق قد يكون مريحاً بالمرور عبر هذه النوازع و الطبائع و مراعاتها و قد يكون مضاداً لبعضها أو أكثرها.
 ما يهمنا في هذا الموضوع هو جانب الإستيحاش لعلاقته المباشرة بالقلة و الكثرة. هذا الجانب لن يعمل إلا بعد خلق أكثرية متكومة من الجوانب الأخرى التي تميل إلى جوانب فردية لها علاقة غير مباشرة في صنع الأكثرية و الأقلية و ليس في الإرتباط بها. فإن الطريق الذي يرضي نوازع أكثر الأفراد سيكون مثل نور المصباح الذي تتجمع عليه الفراشات و الذباب بحثاً عن المنفعة الخاصة لكل منها.
 النوازع ستكون فردية في أول الأمر كما قال علي عليه السلام “إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع،يخالف فيها كتاب الله،يتولّى رجال رجالاً” و ربما لكون الطريق الجديد مبنياً على هوى فمن الطبيعي أن ينجرف إليه عامة الناس. و من ثم يبدأ تأثير عامل الإستيحاش في إضعاف الآراء الصحيحة  و دفع أتباعها للإنجراف نحو الطريق الخطأ. بل ستجد أن نفس الإنسان تبحث له عن أي عذر آنذاك لينضم إلى طريق رغم أنه يعلم خطأه.
فتنة العجل التي وقع فيها قوم موسى، جرت إليها عامة بني إسرائيل كما تعلمنا من سيرتهم، حتى عجز هارون عن ردعهم بل كادوا يبطشون به لو تصادم معهم، و من السذاجة أن نعتقد أنهم كانوا أقلية ليفعلوا ذلك، فالفتنة تجر دائماً الأغلبية في بدايتها على الأقل لأن الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت، و ببساطة لأن أكثرهم لا يعلمون.

 آخر الوحي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه 
فكل رداء يرتديه جميل
و إن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
و ماقل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلا و كهول
و ما ضرنا أنا قليل و جارنا
عزيز و جار الأكثرين ذليل
السموأل بن عاديا

الأربعاء، 5 أكتوبر 2011

تلمس الذات







الأربعاء ٥ أكتوبر ٢٠١١




حين يفتح الطفل عينيه على الدنيا، فإنه أول ما يبدأ بالتعرف على أجزاء جسمه ثم على قدرات كل منها واحداً فواحد. هذا من معاني تلمس الذات أي التعرف على القدرات و الأدوات المتوفرة. كذلك الغطاس حين يستعد لقفزة خطيرة فإنه يفحص نفسه بنظرات سريعة ليتأكد من جهوزيته ربما أو لعامل نفسي يبحث من خلاله عن الثقة، هذا مكان آخر لتلمس الذات.
 مقدم البرنامج التلفزيوني لا بد له من إلقاء نظرة فاحصة على المرآة يتأكد من خلالها أن كل شيء على ما يرام. و على نفس منواله فإن الإنسان عند خروجه مباشرة من حادث سيارة خطير، فأول ما يبادر به هو تلمس أجزاء جسمه و كأنما يتأكد من سلامتها واحداً فواحد أو لعله يحمد الله على سلامتها جميعاً بدون أن يشعر و في حركة فطرية.
 و لعل المعنى الذي أريد التركيز عليه هو المعنى المرتبط بتعرض الإنسان لهزة عنيفة كحادث سيارة أو ما شابه، و كيف يبدأ بتقييم وضعه و سلامته جسمانياً، و ربما فكر في مسببات الحادث و كيفية تجنبه في المستقبل. إنه ذات المعنى الذي أشار إليه الراحل الشيخ سليمان المدني رحمه الله في محاضرته حول علاقة الديموقراطية بالإسلام.
 فهو يقول كما يروي التاريخ أنه بعد أن دكت مدافع محمد الفاتح العثماني القسطنطينية، خرج كثير من فلاسفتها ومفكريها إلى روما و باقي مدن أوروبا. و يقول أن ذلك كان إيذاناً  للأوروبيين للتنبه من سبات طويل و بدأ عندهم عصر عرف بعصر التنوير أقبل فيه الأوروبيون على دراسة العلم من جديد و على “تلمس ذاتهم” تلمساً جديداً - و هنا بيت القصيد.
 إذن فقد كانت بداية عصر التنوير و التغيير في أوروبا كارثة أو هزة عنيفة تجلت في وصول الخطر العثماني إلى أبواب القسطنطينية و غيرها. بدأ المفكرون بعدها بالإنتشار بين مدن أوروبا انتشاراً غير عادي، و بدءوا بعدها بالعمل الدؤوب على تنوير الناس بمؤلفاتهم و أعمالهم و اختراعاتهم. لقد وجد حافز للعمل للأمة الأوروبية كلها آنذاك التي أعادت تقييم نفسها بعد أن تردى وضعها للدرجة التي صار رقادها يغري العثمانيين باحتلالها.
 في عصرنا هذا، لا شك أن الربيع العربي يمثل هزة عنيفة، قامت بالكثير من التغيير في الواقع العملي لشعوب من أمثال تونس و مصر و ليبيا. و تجلى هذا التغيير في سقوط أنظمتها. و قامت حركات في عدة دول أخرى كاليمن و سوريا. في هذه الدول تالية الذكر، فإن هناك ناراً تحت الرماد. لماذا أقول أن هناك ناراً تحت الرماد؟؟ لأن ما يعمل فيها الآن و بشدة هو تساؤل الفلاسفة و تفكيرهم في مدىصحة نظرياتهم التي عاشوا يعتقدون بها زمناً طويلاً.
المدارس الفكرية بدورها دخلت مرحلة إعادة التقييم، فهناك مدارس كلاسيكية أو تقليدية مثل سلفيي السنة و إخباريي الشيعة أو غيرهم من الباحثين عن تأصيل شرعي لموقفهم السياسي. هؤلاء أخذوا في النظر من جديد لمبحث العلاقة مع السلطة. في مقال “طاعة أولي الأمر بين الإفراط و التفريط “ يتساءل الشيخ ابراهيم بو صندل عن الأمر و عن ولاية الأمر و صفات و صلاحيات ولي الأمر و متى يفقد شرعيته و غيرها من الأسئلة في هذا الباب من طاعة ولي الأمر.
 لاشك أن هذه التساؤلات التي أشار بوصندل إليها، قد أشبعت نقاشاً في عصور سابقة كما ذكر هو، إلا أنها ظلت لزمن طويل منسية عند عوام الناس بل و كثيراً من علمائهم، حتى جاء الباحثون عن التأصيل الشرعي. فالتناقض الذي يحصل للمسلم حين يدعو على بشار سوريا ثم يدعو لعلي صالح اليمن مثلاً يجعله يفكر من جديد أكثر من مرة في هذه العناوين التي ربما ما كانت لها لولا الربيع العربي إلا أن تنتشر في أوساط المثقفين من طلبة العلوم الدينية و أعضاء التنظيمات السياسية الدينية.
يقع اليوم على عاتق علماء الدين في ظل هذه الفتن التأصيل الشرعي لمواقفهم في أبواب كثيرة من طاعة ولي الأمر إلى الوحدة الإسلامية إلى التكفير إلى المنظمات الجهادية إلى عدة ملفات ملتهبة يجب أن تكون مبنية على أصول راسخة من ديننا الحنيف وليست مبنية على مصالح فردية لدويلات عربية مسلمة دون باقي دول الإسلام. كل هذه الأبواب هي مما يحتاج إلى إستباق قبل أن تحصل بسببها هزات قد تكون أعنف وقعاً من مدافع الفاتح على أبواب القسطنطينية.

آخر الوحي:
 يــا جلـــق الشــام إنـا خلقـة عجــــب
 لــم يــدر ما سرها إلا الذي خلقــــا
 معــذبون وجنـــات النعيـــم بنـــــا
 وعاطشـون ونمري الجونة الغدقـــــا
 وزاحفــــون بأجســــام نوابضهـــــــا
 تســـتام ذروة علييــــن مرتفقـــــــا
 محمد مهدي الجواهري

الأحد، 2 أكتوبر 2011

حفلة طلاق

الأحد ٢ أكتوبر ٢٠١١


كانت جالسة في القاعة ترتدي ثوباً أحمر زاهياً و حولها المدعوات من الصديقات و القريبات يهللن و يهزجن و يتهامسن. توسطت القاعة كعكة متعددة الطوابق تعلوها دميتان لعريس و عروس، إلا أن العروس لا تقف بجانب العريس بل تقابله و تضع في مبسمها صفارة رياضية و ترفع بطاقة حمراء. لم تكن لتتخلف عن عرف حفلات الطلاق الذي بدأ يسري بين النساء و الرجال سريان النار في الهشيم، هل نسميه ربيعاً عربياً من نوعٍ آخر يرجع فيه الطلاق إلى سابق عهده من الإعتيادية حيث كانت المرأة تكسر قلة ماء وراء الزوج لتتزوج آخر دون أن تشعر بأي خسارة من الفراق؟ أم نسميه تفككاً أسرياً و دخولاً لنمط غربي على حياتنا يهددها من كل جانب و يجعل عوائلنا في مهب الريح؟
 لم تستطع أن تكتم دمعة قهر ندت من عينها إلا أن خنقت عبرتها و هي تحملق في وجه دمية العريس المكفهرة كأنها تحمل عتباً عليها هي. نهضت لتعدل زينتها فلحقتها قريبة لها “ أنت لا زلت متمسكة به، فما داعي الحفلة الصاخبة التي لا تتحملها أعصابك”، هنا رجعت بأفكارها و ذاكرتها إلى حفلة مشابهة، حفلة زواجها من الجار الطيب دمث الأخلاق حلو المعشر صاحب الصدق و الأمانة.
 لم يكن يعيبه شئ، كانت سعيدة بوده و وصله، و كان يجمعهما عشهما الوادع في بيت أبيه. إلا أنه لضيق ذات اليد ، فقد كان يعتمد في تلبية احتياجات المنزل على مساعدة والده له بين حين و آخر. والده المحب لم يدخر جهداً في سبيل مساعدتهما، ربما لحبه لإبنه أو حتى لزوجة إبنه، فهي من أقاربهما على أي حال. إلا أن الأب بدأ يتبرم شيئاً فشيئاً من طلبات ابنه، والتي هي في الواقع طلبات امرأة ابنه، فتلك الطلبات بدأت تضيق على ميزانيته و تشعره بإستغلال تلك الكنة لكرمه. هكذا كان يشعر، خصوصاً عندما يقارن حال ابنه و زوجته بالأبناء البررة في بيوت الجيران الذين يسهمون في دخل الأسرة بدل أن يستهلكوا مداخيل آبائهم.
 الإبن كان يعمل في معامل أبيه و متاجره بإخلاص، فهو على قلة الراتب كان يشعر بالبر و الأمان في جوار أبيه. أحياناً كان يفكر في هجران العمل لقلة الراتب، إلا أنه يتراجع لأنه يرى وجوده مع أبيه حقاً و واجباً.
 بين هذا و ذاك، حدثت مرة مشادة بين الأب و إبنه حول أحد طلباته التي يراها الإبن أساسية و يراها الوالد ترفاً بلا حاجة حقيقية. هنا لام إبنه على طلبه و قال له، إن حل مشاكل هذا البيت هو في طلاقك من هذه اللحوحة كثيرة الطلبات. لم ينم الفتى ليلته و ظل يتقلب ذات اليمين و ذات الشمال. تذكرت هنا كيف سألته عما كان يضايقه و يقلق منامه، و تذكرت كيف ثار في وجهها على غير عادة.
 كانت تلك الحملة الشعواء التي شنها عليها و عايرها بالجديد و القديم، عايرها حتى على كسوتها و طعامها و بدا واضحاً أنه رجل آخر في ذلك اليوم بالذات. لم يكن ناكراً للعشرة، و لكنه لم يكن منصفاً ربما، ربما كان من حيث لا يدري يفكر في مصلحته بعيدة الأمد مع أبيه و التي تكاد تضيع كما يظن هو على الأقل.
 انتهت تلك الليلة بدخول المأذون للبيت دخولاً أزعج كل من فيه، فقد جاء قابضاً لا زائراً، جاء هادماً للملذات و مفرقاً للجماعات.
 بدا وجه حماها تلك الليلة متهللاً لانقضاء الأزمة،إلا أنها أشاحت بوجهها و خرجت خلف المأذون و ربما قبل خروجه لتلحق ما بقي من كرامتها المهدورة حتى و إن لم تجد مأوى تقضي فيه ليلتها.
 و بدأت هنا مشكلة الأب من حيث لا يدري، فقد ركدت المياه في ذلك الأسبوع ذي البداية المشئومة، إلا أن منتصف الأسبوع حركها من جديد. فالإبن الذي أطاع أباه أول الأمر،وضح رغبته في مصاهرة الأكابر و بدأ يتكلم كوريث شرعي لأبيه و حامل لإسمه و حامٍ لمتاجره، و في نشوته التي يحاول أن ينسى خسارته فيها أخذ يتكلم و قد أخرج أباه من معادلته و كأنما صار صاحب الأمر و النهي. بل وصلت أصداء خطبته غير الرسمية من بنت الأكابر إلى طليقته.
 الفتاة أيضاً كانت مخطوبة الود من الجيران، أولئك الجيران الذين يدعون بين كل حين و آخر ملكيتهم لبيت حماها، حتى وصلت دعاواهم للمحاكم. إلا أنها تزوجت بهذا الفتى لنسبه و دماثته و فضلته على الخاطب الآخر. ربما كان احتمال زواجها من خاطبها القديم مطروحاً بعد أن ذهب الود و العشرة مع بعلها السابق، على الأقل في ظن هؤلاء الجيران.
 فكرت مرة أخرى و هي تعدل زينتها، فهي تعرف حكمة حماها السابق، و تعرف أنها و زوجها و حماها تشاركوا الأخطاء في تلك الليلة الليلاء. تعرف كيف أن حماها يقضي أيامه الآن بين رغبات النفس الأمارة و مخاوف النفس اللوامة. و من قلبها تمنت أمنية سببها العشرة و المودة. تمنت لو يطرق هذه الإحتفال طارق يحول حفل طلاقها إلى زفاف. أن يكون هذا الطارق ذات الرجل الحكيم الذي صاهرته سواء حركته حرقة قلبه على تلك العشرة أو حتى إدراكه أن الزمن تغير و صار لازماً أن يقترب و يسمع.
 آخر الوحي:
 هذا الهوى..
 ما عاد يغريني!
 فلتستريحي.. ولتريحيني..
 إن كان حبك.. في تقلبه
 ما قد رأيت..
فلا تحبيني..
 حبي..
 هو الدنيا بأجمعها
 أما هواك. فليس يعنيني..
 أحزاني الصغرى.. تعانقني.
 وتزورني..
 إن لم تزوريني.
 نزار قباني

الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

أزمة الضمير










٢٨ سبتمبر ٢٠١١


يقال إن للمرأة أربعة أسلحة: لسانها وأظافرها ودموعها وإغماؤها. ولعل السلاحين الأخيرين أشد فتكاً بالخصم من الأولين والسبب يكمن في أنهما يفسدان لذة الانتصار مثل الخصم الذي يرفع راية بيضاء قبل أن تقصفه بمدافعك، يخلقان صراعاً نفسياً ثم يسببان هزيمة من الداخل ويجعلان الإنسان أمام أزمة ضمير لا مفر منها، ويشعر أنه اجترح ظلماً وقسوة حتى لو لم يكن الأمر كذلك.
أزمة الضمير التي تستخدم عاطفياً من قبل الابن بمكر تجاه والديه ومن الموظف تجاه رب العمل ومن المرأة مع رجلها، هي نوع من أنواع القوة المغلفة بغلاف الضعف، إلا أنها أكثر سمية وفتكاً من سلاح المواجهة؛ لأنها تدخل الإنسان في صراعه الذاتي بين مكوناته النفسية، وغالباً يكون النصر للمثل العليا على الأنا حتى وإن كانت الأنا محقة، وكانت المثل العليا في غير محلها. ربما كان هذا سبباً في ضرورة وجود الحكم أو القاضي ليمنع الغش والاستغلال أو حتى الاشتباه.
أزمة الضمير تستخدم لأكثر من غرض، فمن الممكن أن تستخدم لجمع الأنصار أو لتحييد المخالفين أو لضرب الخصم في جبهته الداخلية. وهي تحصل عبر إظهار صانعها الضعف والظلامة. هنا يجب أولاً أن نفرق بين أمرين مهمين، بين أحقيته وبين مظلوميته. هل هو محق في خصومته، هذا أمرٌ يحكمه القانون والشرع. وهل هو مظلوم في تعاطي الآخر مع حقوقه الأولية، وهذا أيضاً شأن حقوقي يمكن التقاضي فيه وإثباته. إذن، فالأمران يخضعان للاعتبارات العقلية والمنطقية ولا محل للعواطف فيهما.
عند افتعال أزمة الضمير كثيراً ما يصاحبها خلط للأوراق لإدخال عنصر العاطفة الذي يساهم الإغراق فيه إلى تضخيم جانب المظلومية. هنا تتحول القضية الثانية إلى قضية أساسية يلزم إرضاء صاحبها مما يستلزم تقديم تنازلات قد يكون من ضمنها التنازل عن الحق في القضية أصل الخلاف. على المدى القصير تنجح عملية خلط الأوراق أول ما تنجح في تحييد المخالفين القريبين أو ضمهم إلى دائرة الأنصار. وعلى المدى البعيد قد تساعد الظروف المحيطة في الضغط على الخصم وخسارته قضيته الأساسية.
ربما يمكننا تسمية خلط الأوراق في هذا الاتجاه بمسمى استثمار المظلومية. ويمكن تشبيهها بمثال من قبيل أن يلقي شخص نفسه أمام مركبة مسرعة ليطالب فيما بعد بتعويض مجز. لو لاحظنا، فالرجل أخطأ بإلقاء نفسه أمام السيارة، إلا أنه في أكثر الحالات التي ينجو فيها يحصل على تعويض جيد وسريع ربما عبر تسوية خارج القضاء.
من الأمثلة استخدام الأطفال والنساء مثلما فعل القذافي حين قام بتجنيد النساء والأطفال ليرفع أقمصتهم المدماة فيما بعد ويتهم ثوار ليبيا بقتل الأطفال.
الشق الثاني لأزمة الضمير يتمثل في تغييب الضمير تماماً عبر الإغضاء عن مظلومية الخصم بسبب عدم أحقيته، إذ لا يجوز أن نجرد خصومنا من حقوقهم كبشر لكونهم مبطلين في دعواهم بحسب اعتقادنا.
يجب الفصل بين الورقتين دائماً لتجنب أزمة الضمير ومعاملة كل منهما كقضية منفردة، وإلا كان الحق للأدهى وليس الأحق.
لا أعتقد أن الشواهد للشقين من أزمات الضمير تغيب عن واقعنا، ولربما كان القارئ يستحضر بعض الأمثلة الآن، ولكنني بالتأكيد لا أقصدها.
سؤال يطرح نفسه، إذا كان خلط الأوراق فخاً يستخدمه أحد الأطراف، فلماذا يقع الطرف الآخر فيه، والإجابة تقول قد يقع في الفخ إما لأنه مكره على الوقوع فيه أو (وكثيراً ما يصح ذلك) برضاه لإدخال كل الأنصار المحتملين لصاحب الفخ وجرهم في أتون معركة محدودة تضمن القضاء عليهم جميعاً، فيكون انتصاراً ساحقاً يقضي على قوة هذا الخصم لأمد بعيد.
العملية برمتها مرفوضة أخلاقياً؛ لأنها تقوم على أساس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وتقوم على كسر المحظورات، وإلغاء قدسية المقدسات ونشر سوء الظن، فتقتل كل جميل في عالم البشر.
هنا يطرح سؤال آخر نفسه: الأدوات المستخدمة لخلق أزمة ضمير وخلط الورق والابتزاز فيما بعد، إنها تدفع أثماناً غير قابلة للاسترداد، لماذا يسمح المسؤلون عنها والقيمون عليها باستغلالها؟ والإجابة باختصار: إنهم يعيشون أزمة ضمير من نوع آخر!

آخر الوحي:
كفي عن الكلام يا ثرثارة
 كفي عن المشي
 على أعصابي المنهارة
 ماذا أسمي كل ما فعلته؟
 سادية
 نفعية
 قرصنة
 حقارة
 ماذا أسمي كل ما فعلته؟
 يا من مزجت الحب بالتجارة
 والطهر بالدعارة
 ماذا أسمي كل ما فعلته؟
 فإنني لا أجد العبارة
 أحرقت روما كلها
لتشعلي سيجارة؟

نزار قباني

الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

فصل الخطاب








٢١ سبتمبر ٢٠١١


بينما يقترب موعد الانتخابات التكميلية تتعالى أصوات الدعوة للمقاطعة. وبينما تجد المشاركين يصرحون بأسبابهم للمشاركة فإن المقاطعين يضعون أيضاً أسباباً قد يكون بعضها حقيقاً بالتأمل. بالنسبة لي ولجملة من المشاركين في الانتخابات، فإن المشاركة شرعاً ليست خيارا بقدر ما هي واجب لا مناص منه. ومهما كانت تسويغات الآخرين للمقاطعة مبنية على عدم جدوى الشكل الحالي من التجربة النيابية فإن من التغافل أن نغمض عما يمكن أن يحدث في غياب تمثيل كفؤ لكل فئات الشعب.
إن قلت لي أنه لا جدوى فأنت تنظر إلى المصلحة وحسب، ما بالك بالمفسدة؟ هل تحسب أن حضورك وغيابك متساويان في جميع الأحوال وإزاء جميع القضايا؟ إن كان كذلك فما قيمة أي تحرك في الدنيا، إعلامياً كان أوحقوقياً أوإقتصادياً أوإجتماعي؟ وماذا يفيد غيابك في تطوير التجربة؟ أتراها تطورت بمن قاطع في 2002 لننتظر ثمرة المقاطعة الآن؟
نعم أنت تتمنى تجربة أفضل تدفع البلاد نحو الاستقرار والتنمية، هل تعتقد أن المقاطعة هي الطريق الأمثل؟ هذا شأنك من حيث الجدوى والتفكير في المخرجات، ولكن اسمح لي أن أضعك أمام أزمة ضمير لأقول لك، من يتحمل مسؤولية فراغ التجربة من أكفاء صرحوا بتعرضهم للضغط من محيطهم الاجتماعي فانسحبوا فخسرت التجربة جهودهم، وهل يكون المقاطع أحد أسباب تأخر هذه التجربة وعدم جدواها حين اتخذ سبيل المقاطعة ودعا لها؟
أتخبرني أن الواقعية السياسية المتمثلة في الدخول تعد تخاذلاً وتسليماً؟ بربك ألم يتم اتهام المعارضة بذلك حين دخلت ضمن قانون الجمعيات، وحين قررت دخول التجربة في 2006 تحت مظلة دستور 2002؟ ولكن عند الصباح يحمد القوم السرى، ففي انتخابات 2010 كانت كتيبات مرشحي المعارضة تعج بذكر إنجازاتها من التجربة السابقة والتي استبانت إمكانية تحقيقها من تجربة الدخول بعد مرارة المقاطعة.
تقول لي أن هناك توجهات من المتشددين خلقت الإستهداف لمكون أساسي من مكونات الشعب وكان حملة هذا الإتجاه يحاربون هوية ما. لمسنا كلنا بعض ذلك، وعرف ذلك الجميع، وماعليك إلا أن تتصفح برامج التواصل الاجتماعي لتعرف أن ما تقوله صحيح جزئياً. ولكن هل لي أن أذكرك بما نسيته ولم أنسه؟ سأذكرك بتحفة التقرير المثير أوكما أحب أن أطلق عليه التقرير “اللي ما ينطرى”، هل تذكر كيف دخلت المعارضة بعيد نشره انتخابات 2006 عاقدة العزم على الدخول للتغيير والتطيير. ومنذ ذلك إلى 2010 وأنت يتراءى لك تنفيذ ما يبدو أنه من بنود هذا التقرير، هل منع هذا من الدخول في التجربة السابقة؟ كلا، بل كنت ترى ضرورة التواجد لنفس الأسباب، فماحدا مما بدا؟
تقول ان الدخول تسلق وتجاوز للآهات والعذابات والدماء التي أريقت وأنه دخول لمآرب خاصة، وأما أنا فأقول لك لم لا يكون وفاء لكل قطرة دم خلقها الله وحرم أن تراق، وسبيل هذا الوفاء في الإبتعاد عن أي مواجهة تريقها. لأن هذه الدماء الزاكية أغلى من أن تسيل لأي سبب. ووفاء لكل قطرة من قبل أن تسيل يجب أن تغمد ولا تسل سلاحاً فتظل أثمن من أي مطالب قد ينالها الناس من بعد أولا ينالونها.
لا تقل لي أني بالدخول آخذ مكاناً كان ليأخذه من هوأحق وأنني سأكون شاهد زور على إرادة الناس. فالأولى بمن لم يسد الثغر مع علمه بخطره أن لا يلوم من ينبري لسده. ثم كيف لأحد أن يشهد زوراً على إرادة الناس بدخوله إن كانت النسب المنخفضة جداً ستشهد بصوت جلي عن إمتعاض الكثيرين وعدم رغبتهم في الدخول.
هذا موقف لن يتغير طالما لي تأصيلي الشرعي الثابت للمسألة الذي لا يتغير بالمرحليات وبتلون الساحات ولا حين يتعلمن الملتحون.
آخر الوحي:
شتان مايومي على كورها ***ويوم حيان أخي جابر
الأعشى الكبير